سورة المدثر تفسير مجالس النور الآية 2

قُمۡ فَأَنذِرۡ ﴿٢﴾

تفسير مجالس النور سورة المدثر

المجلس الثامن والستون بعد المائتين: قم فأنذِر



سورة المُدَّثِّر من أوائل السور المكِّيَّة نزولًا، وموضوعها هو الدعوة التي كُلِّفَ بها رسولُ الله وما يتَّصِلُ بها، ثم شَرْحٌ لموقف أهل مكَّة وصدمتهم بهذه الدعوة وحيرتهم في كيفيّة مجابهتها، ثم بيانٌ لما توعَّدَهم الله به من هلاكٍ وعذابٍ، وكما يأتي:
أولًا: استهَلَّت السورة بنداءٍ علويٍّ للرسول يأمره أن يقومَ بالدعوةِ إلى هذا الدين، وأن يستجمِع الصفات المطلوبة لهذا الأمر؛ مِن تعظيمٍ لله تعالى، وتطهُّرٍ كاملٍ في المخبَر والمظهَر، وابتعادٍ عن مواطن الزَّلَلِ والإثم، والتنزُّه عن الشُّحِّ والطَّمَع، والتحصُّن بالصبر ﴿یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلۡمُدَّثِّرُ ﴿١﴾ قُمۡ فَأَنذِرۡ﴿٢﴾ وَرَبَّكَ فَكَبِّرۡ ﴿٣﴾ وَثِیَابَكَ فَطَهِّرۡ﴿٤﴾ وَٱلرُّجۡزَ فَٱهۡجُرۡ ﴿٥﴾ وَلَا تَمۡنُن تَسۡتَكۡثِرُ ﴿٦﴾ وَلِرَبِّكَ فَٱصۡبِرۡ﴾ وهذا تنبيهٌ لأخلاقِ الداعيَةِ وعُدَّتِه في الدعوة في كلِّ زمانٍ ومكانٍ، وإن كانت صورة الخطاب خاصَّة به .
ثانيًا: بعد هذا الاستهلال في تعظيم شأن الدعوة وبيان شروطها، وصفات القائمين عليها، انتقلت السورة إلى أولئك الذين أوقَفوا أنفسهم للصدِّ عن هذه الدعوة وتشويهها، تُهدِّدهم وتتوعَّدهم بالعذاب الشديد: ﴿فَإِذَا نُقِرَ فِی ٱلنَّاقُورِ ﴿٨﴾ فَذَ ٰ⁠لِكَ یَوۡمَىِٕذࣲ یَوۡمٌ عَسِیرٌ ﴿٩﴾ عَلَى ٱلۡكَـٰفِرِینَ غَیۡرُ یَسِیرࣲ ﴿١٠﴾ ذَرۡنِی وَمَنۡ خَلَقۡتُ وَحِیدࣰا ﴿١١﴾ وَجَعَلۡتُ لَهُۥ مَالࣰا مَّمۡدُودࣰا ﴿١٢﴾ وَبَنِینَ شُهُودࣰا ﴿١٣﴾ وَمَهَّدتُّ لَهُۥ تَمۡهِیدࣰا ﴿١٤﴾ ثُمَّ یَطۡمَعُ أَنۡ أَزِیدَ ﴿١٥﴾ كَلَّاۤۖ إِنَّهُۥ كَانَ لِـَٔایَـٰتِنَا عَنِیدࣰا ﴿١٦﴾ سَأُرۡهِقُهُۥ صَعُودًا ﴿١٧﴾ إِنَّهُۥ فَكَّرَ وَقَدَّرَ ﴿١٨﴾ فَقُتِلَ كَیۡفَ قَدَّرَ﴿١٩﴾ ثُمَّ قُتِلَ كَیۡفَ قَدَّرَ ﴿٢٠﴾ ثُمَّ نَظَرَ ﴿٢١﴾ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ﴿٢٢﴾ ثُمَّ أَدۡبَرَ وَٱسۡتَكۡبَرَ ﴿٢٣﴾ فَقَالَ إِنۡ هَـٰذَاۤ إِلَّا سِحۡرࣱ یُؤۡثَرُ ﴿٢٤﴾ إِنۡ هَـٰذَاۤ إِلَّا قَوۡلُ ٱلۡبَشَرِ ﴿٢٥﴾ سَأُصۡلِیهِ سَقَرَ﴿٢٦﴾ وَمَاۤ أَدۡرَىٰكَ مَا سَقَرُ﴿٢٧﴾ لَا تُبۡقِی وَلَا تَذَرُ ﴿٢٨﴾ لَوَّاحَةࣱ لِّلۡبَشَرِ ﴿٢٩﴾ عَلَیۡهَا تِسۡعَةَ عَشَرَ﴾.
ثالثًا: عقَّبَت السورة على تساؤلات المشركين واعتراضاتهم بشأن عدد خزَنة جهنَّم التسعة عشر، فبيَّنت أنّ هؤلاء إنّما هم ملائكة، وقوّتهم لا تُقاس بمقاييس البشر، وأنّ هذا العدد موافقٌ لما عند أهل الكتاب، وبيَّنت أنّ الإخبار بهذا العدد إنّما جاء اختبارًا لإيمان المؤمنين، وكشفًا للشاكِّين والمُتردِّدِين ﴿وَمَا جَعَلۡنَاۤ أَصۡحَـٰبَ ٱلنَّارِ إِلَّا مَلَـٰۤىِٕكَةࣰۖ وَمَا جَعَلۡنَا عِدَّتَهُمۡ إِلَّا فِتۡنَةࣰ لِّلَّذِینَ كَفَرُواْ لِیَسۡتَیۡقِنَ ٱلَّذِینَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَـٰبَ وَیَزۡدَادَ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤاْ إِیمَـٰنࣰا وَلَا یَرۡتَابَ ٱلَّذِینَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَـٰبَ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَلِیَقُولَ ٱلَّذِینَ فِی قُلُوبِهِم مَّرَضࣱ وَٱلۡكَـٰفِرُونَ مَاذَاۤ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَـٰذَا مَثَلࣰاۚ كَذَ ٰ⁠لِكَ یُضِلُّ ٱللَّهُ مَن یَشَاۤءُ وَیَهۡدِی مَن یَشَاۤءُۚ وَمَا یَعۡلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَۚ وَمَا هِیَ إِلَّا ذِكۡرَىٰ لِلۡبَشَرِ﴾.
رابعًا: عادَت السورة وبشيءٍ من التفصيلِ والتوسُّعِ تُذكِّر بالآخرة وانقسام الناس فيها بحسب ما قدَّمُوه لأنفسهم في هذه الحياة، فكلِّ إنسانٍ مجزِيٌّ بعمَلِه؛ إن خيرًا فخيرٌ، وإن شرًّا فشرٌّ ﴿كَلَّا وَٱلۡقَمَرِ ﴿٣٢﴾ وَٱلَّیۡلِ إِذۡ أَدۡبَرَ ﴿٣٣﴾ وَٱلصُّبۡحِ إِذَاۤ أَسۡفَرَ ﴿٣٤﴾ إِنَّهَا لَإِحۡدَى ٱلۡكُبَرِ ﴿٣٥﴾ نَذِیرࣰا لِّلۡبَشَرِ ﴿٣٦﴾ لِمَن شَاۤءَ مِنكُمۡ أَن یَتَقَدَّمَ أَوۡ یَتَأَخَّرَ ﴿٣٧﴾ كُلُّ نَفۡسِۭ بِمَا كَسَبَتۡ رَهِینَةٌ ﴿٣٨﴾ إِلَّاۤ أَصۡحَـٰبَ ٱلۡیَمِینِ ﴿٣٩﴾ فِی جَنَّـٰتࣲ یَتَسَاۤءَلُونَ ﴿٤٠﴾ عَنِ ٱلۡمُجۡرِمِینَ ﴿٤١﴾ مَا سَلَكَكُمۡ فِی سَقَرَ ﴿٤٢﴾ قَالُواْ لَمۡ نَكُ مِنَ ٱلۡمُصَلِّینَ ﴿٤٣﴾ وَلَمۡ نَكُ نُطۡعِمُ ٱلۡمِسۡكِینَ ﴿٤٤﴾ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ ٱلۡخَاۤىِٕضِینَ ﴿٤٥﴾ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِیَوۡمِ ٱلدِّینِ ﴿٤٦﴾ حَتَّىٰۤ أَتَىٰنَا ٱلۡیَقِینُ ﴿٤٧﴾ فَمَا تَنفَعُهُمۡ شَفَـٰعَةُ ٱلشَّـٰفِعِینَ﴾.
خامسًا: ختمَت السورة ببيان حال المشركين من الدعوة ونفورهم عنها، مع أنّها ما جاءت إلَّا لإنقاذهم وإسعادهم في حياتهم الدنيا، وفي حياتهم الأخرى ﴿فَمَا لَهُمۡ عَنِ ٱلتَّذۡكِرَةِ مُعۡرِضِینَ ﴿٤٩﴾ كَأَنَّهُمۡ حُمُرࣱ مُّسۡتَنفِرَةࣱ ﴿٥٠﴾ فَرَّتۡ مِن قَسۡوَرَةِۭ ﴿٥١﴾ بَلۡ یُرِیدُ كُلُّ ٱمۡرِئࣲ مِّنۡهُمۡ أَن یُؤۡتَىٰ صُحُفࣰا مُّنَشَّرَةࣰ ﴿٥٢﴾ كَلَّاۖ بَل لَّا یَخَافُونَ ٱلۡأَخِرَةَ ﴿٥٣﴾ كَلَّاۤ إِنَّهُۥ تَذۡكِرَةࣱ ﴿٥٤﴾ فَمَن شَاۤءَ ذَكَرَهُۥ ﴿٥٥﴾ وَمَا یَذۡكُرُونَ إِلَّاۤ أَن یَشَاۤءَ ٱللَّهُۚ هُوَ أَهۡلُ ٱلتَّقۡوَىٰ وَأَهۡلُ ٱلۡمَغۡفِرَةِ﴾.


﴿یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلۡمُدَّثِّرُ﴾ نداءٌ لرسول الله فيه معنى التودُّد والتلطُّف، كما في ﴿یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلۡمُزَّمِّلُ﴾ [المزمل: 1]، مع تقارُب في معنى الكلمتَين أيضًا، فالمُدَّثِّر أصلها المُتدثِّر، أي: المُلتحِف بثيابه، وكلاهما اقتَرَن بنزول الوحي، وما أصابه من الروع في أوَّل الأمر.
﴿قُمۡ فَأَنذِرۡ﴾ أمرٌ بوجوب الدعوة إلى الله، والقيام وإن كان يعني النهوض من الفراش ونحوه، إلَّا أنَّ دلالته هنا أوسع من ذلك، فهو يعني: الاضطلاع بالأمر وتحمُّل مسؤوليَّته وتبِعاته.
﴿وَرَبَّكَ فَكَبِّرۡ﴾ أي: كبِّر الله وعظِّمه كما ينبغي، ورُبَّما أَوْمَأَ بهذا الأمر إلى الصلاة أيضًا.
﴿وَثِیَابَكَ فَطَهِّرۡ﴾ أي: أدِمْ طهارتها ونظافتها، وتطهير الثياب يدلُّ على تطهير الجسد بطريق الأَولَى، وفيه الإشارة إلى تطهير الباطن من الكدورات المعنويَّة وكلّ ما يشغل القلب عن الخشوع والحضور، وهنا إيماءة أخرى إلى الصلاة أي: اقتران التطهير بالتكبير.
﴿وَٱلرُّجۡزَ فَٱهۡجُرۡ﴾ أي: لا تقترب منه، والرُّجْز يُطلق على المُستقبحات الماديَّة؛ كالنجاسات، والمعنويَّة؛ كالشرك، والظلم، والآثام المُوجِبة للعقوبات.
﴿وَلَا تَمۡنُن تَسۡتَكۡثِرُ﴾ أي: لا تَمْنُن على الناس بما قدَّمْتَه لهم من عِلمٍ وصدقةٍ وإكرامٍ، وتستكثِر ذلك فيهم، وترَى لنفسك الفضلَ عليهم، فإنَّما ترجو أجرَك من الله وحده.
﴿وَلِرَبِّكَ فَٱصۡبِرۡ﴾ أي: اصبر على ما كلَّفك به ربُّك من دعوة الخلق إليه مهما نالك من أذى، واجعَل ذلك الصبر في الله وحده ليس عن ضعفٍ، ولا عن وهنٍ.
﴿فَإِذَا نُقِرَ فِی ٱلنَّاقُورِ﴾ أي: إذا نُفِخَ في الصور إيذانًا بقيام الساعة ونهاية الحياة الدنيا، والنفخ في الصور مُكرَّرٌ في القرآن كثيرًا، إلَّا أنَّه هنا استَعمَل النقْر، وهو معنًى آخر مضافٌ إلى النفخ، والله أعلم به؛ إذ هذه من الأخبار الغيبيّة التي ينبغي التوقُّف فيها عند النص، ولأنّها لا تدخل في باب التكليف، والمقصود العام منها حاصلٌ بلا تكلُّف، والله أعلم.
﴿ذَرۡنِی وَمَنۡ خَلَقۡتُ وَحِیدࣰا﴾ أي: اترُك أمر هذا الذي خلقتُه وحيدًا في بطن أُمِّه بلا منصبٍ، ولا مالٍ، ولا جاهٍ ودَعْه لي، وهذه صيغةٌ من صيغ التهديد، وقد نزلت والآيات التي بعدها في الوليد بن المغيرة.
﴿وَجَعَلۡتُ لَهُۥ مَالࣰا مَّمۡدُودࣰا﴾ أي: كثيرًا.
﴿وَبَنِینَ شُهُودࣰا﴾ أي: حاضِرين معه، وهو يستَقوِي بهم، وبما أعطاه الله من مال.
﴿وَمَهَّدتُّ لَهُۥ تَمۡهِیدࣰا﴾ أي: مهَّدتُ الأمورَ أمامه ويسَّرتُها له حتى بلغ في قومه ما بلغ من الجاه والعزِّ.
﴿ثُمَّ یَطۡمَعُ أَنۡ أَزِیدَ﴾ أي: يطمع بزيادة النعم هذه؛ من جاهٍ ومالٍ؛ لأنّه يرى أنّه أهلٌ لها ومستحقٌّ للزيادة فيها لفرط غروره وكِبره.
﴿كَلَّاۤۖ﴾ كلمةٌ رادعةٌ زاجرةٌ، بمعنى أنّه لن يكون له ذلك، وهذا تهديدٌ بزوال نعمته.
﴿إِنَّهُۥ كَانَ لِـَٔایَـٰتِنَا عَنِیدࣰا﴾ والعنيد: شديد العناد، والعبارة جاءت في سياق التعليل؛ بمعنى أنّ نعمته هذه لا تدوم عليه بسبب معاندته لآيات الله وقوله الآثِم فيها.
﴿سَأُرۡهِقُهُۥ صَعُودًا﴾ الإرهاق هنا: المشقة والعذاب، والصعود: العقبة الكأداء، بمعنى أنّه كان قد مهَّد الله له تمهيدًا، فاستحقَّ بكفره وعناده وانعدام شُكره أن ينقلِبَ التمهيدُ إلى تعسيرٍ، والنعيمُ إلى عذابٍ، وهذا من باب مُناسبة الجزاء للعمل.
﴿إِنَّهُۥ فَكَّرَ وَقَدَّرَ﴾ هذه الآية وما بعدها جاءَت تِبيانًا لمعنى كونه عنِيدًا، فهنا فكَّر فيما يردُّ به القرآن ويصدُّ الناس عنه، ثم خطَّط وحَسَبَ بدقةٍ ما الذي ينبغي أن يقوله فيه.
﴿فَقُتِلَ كَیۡفَ قَدَّرَ ﴿١٩﴾ ثُمَّ قُتِلَ كَیۡفَ قَدَّرَ﴾ جملةٌ معترضةٌ ومؤكّدةٌ بمثلها، ومعناها: الدعاء عليه بالهلاك لسوء ما قدَّر.
﴿ثُمَّ نَظَرَ﴾ دقَّقَ في التفكير ونظر نظرة الفاحص المُتعمِّق.
﴿ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ﴾ عبس أي: قطَّب وجهه، وبَسَرَ أي: تغير وجهه غيظًا وحنقًا، وهذه صورة لحالته النفسيّة، وحقده الأعمى على آيات الله؛ إذ لم يجِد فيها بعد كلّ هذا التفكير والتقدير ثغرة ينفذ منها.
﴿ثُمَّ أَدۡبَرَ وَٱسۡتَكۡبَرَ﴾ أي: أعرض عن الحقِّ الذي لاحَ له بهذا التفكير مُستكبرًا عن الخضوع له، والاعتراف به.
﴿فَقَالَ إِنۡ هَـٰذَاۤ إِلَّا سِحۡرࣱ یُؤۡثَرُ﴾ لم يستطع أن يقول في القرآن شيئًا إلَّا أنّه سِحرٌ، وهو اعترافٌ ضمنيٌّ بقوة تأثيره في نفسه، وإن غلَّفَه بأكذوبة السحر، فهو يعلَم أنّ القرآن كلامٌ فيه الأخبار، وفيه الأحكام، وفيه الآداب، وأنّه لا صِلة بين هذه المعاني وبين السحر.
ثُمّ إنّه قال: ﴿سِحۡرࣱ یُؤۡثَرُ﴾ أي: مأثُور عن الأقدمين ومعروف عند الناس، وهذه كذبةٌ أخرى؛ فالسحر المعهود موضوعه مختلفٌ تمامًا، ولو كان كما يزعم لأتى السحرة - وهم كُثُر - بما يُشابِه القرآن أو يُعارِضُه.
﴿إِنۡ هَـٰذَاۤ إِلَّا قَوۡلُ ٱلۡبَشَرِ﴾ أي: ينسبه إلى النبيّ وليس إلى الوحي، بمعنى أنّه يتّهمه - حاشاه - بالكذب واختلاق القرآن.
﴿سَأُصۡلِیهِ سَقَرَ﴾ أي: سأدخله جهنَّم فيصلَى فيها.
﴿وَمَاۤ أَدۡرَىٰكَ مَا سَقَرُ﴾ سؤال قُصد به التهويل من شأنها وخطرها.
﴿لَا تُبۡقِی وَلَا تَذَرُ﴾ أي: لا تُبْقِي ممّن يدخلها أحدًا، ولا تدَعه إلَّا وتهلكه بسعيرها، وتعذّبه بعذابها، ولا يصح أن يكون: ﴿لَا تُبۡقِی﴾ بمعنى أنّها تُفنِيهم؛ لأنّ الفناء سيكون هنا رحمة بهم.
﴿لَوَّاحَةࣱ لِّلۡبَشَرِ﴾ أي: تحرِق أجسادهم وتكوِيها فتتغيّر ألوان بشرتها.
﴿عَلَیۡهَا تِسۡعَةَ عَشَرَ﴾ من الملائكة، وهم خزَنة النار، وهذا عددٌ غيبيٌّ لا نعلم سِرّه؛ فرُبّما يكون لكلِّ طبقةٍ أو دَرَكٍ في جهنّم خازِن، ورُبّما يكون غير ذلك، ولا فرق في النتيجة العمليّة؛ إذ المقصود حصول الرهبة والاتعاظ، حتى يستعدَّ العاقل بما يَقِيهِ شرَّ ذلك اليوم وأهواله.
﴿وَمَا جَعَلۡنَاۤ أَصۡحَـٰبَ ٱلنَّارِ إِلَّا مَلَـٰۤىِٕكَةࣰۖ﴾ أي: وما جعلنا خزَنَة النار إلَّا ملائكة؛ لدفع توهُّم المشركين أنّهم من الإنس فيمكن دفعهم كما يدفعون خصمهم من البشر، وقد ورد هذا عن بعض المشركين مُستخِفًّا بالعدد، ومُستعرضًا لقوته بين قومه، وهذا من جهلهم وحماقتهم.
﴿وَمَا جَعَلۡنَا عِدَّتَهُمۡ إِلَّا فِتۡنَةࣰ لِّلَّذِینَ كَفَرُواْ﴾ ليس عددهم هو الفتنة، فذلك من أحوال الآخرة ونواميسها، وإنَّما الإخبار عنهم، وقد مرَّ قول المشركين فيهم وتعقيبهم على هذا الإخبار.
﴿لِیَسۡتَیۡقِنَ ٱلَّذِینَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَـٰبَ﴾ لأنّ هذا موافقٌ لما ورد عندهم في عدد خزنة النار.
﴿وَیَزۡدَادَ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤاْ إِیمَـٰنࣰا﴾ بتصديق أهل الكتاب، وقد وردت في هذا روايات لا يتّسع لها المجال، ولا يبعُد أن تكون زيادة الإيمان بما يُحدِثه هذا الإخبار من ترهيبٍ يدفع للحذر والورع والخشية المحمودة.
﴿وَلِیَقُولَ ٱلَّذِینَ فِی قُلُوبِهِم مَّرَضࣱ وَٱلۡكَـٰفِرُونَ مَاذَاۤ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَـٰذَا مَثَلࣰاۚ﴾ أي: ليستنكِر الكافرون هذا العدد ومعهم الذين في قلوبهم مرضٌ، وهُم هُنا: المُتردِّدون من الذين الْتَبَس عليهم الأمر، ويبعُد أن يكونوا المنافقين؛ لأنّ السورة من أوائل السور المكِّيَّة، إلَّا على القول الذي يستثنِي هذه الآية فيجعلها مدنيَّة. وأمّا ذِكر أهل الكتاب، فقد ورد كثيرًا في القرآن المكِّي؛ لأنّهم كانوا موجودين، وكانت عقائدهم وأفكارهم موجودة، وكانت لهم صلات بأهل مكِّة.
﴿كَذَ ٰ⁠لِكَ یُضِلُّ ٱللَّهُ مَن یَشَاۤءُ وَیَهۡدِی مَن یَشَاۤءُۚ﴾ أي: يُضِلُّ مَن يطلبُ الضلالة ويسعى لها، ويهدي مَن يستحقُّ الهداية ويسعى لها.
﴿وَمَا یَعۡلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَۚ﴾ في إشارةٍ إلى خزنة جهنَّم، والمعنى أوسع؛ لأنّ جنوده سبحانه وأعدادهم ووظائفهم من الغيب الذي لا يعلمه إلَّا الله، فما علَّمَنا إياه بطريق الوحي عَلِمْناه، وما أمسَكَ جَهِلْناه.
﴿وَمَا هِیَ إِلَّا ذِكۡرَىٰ لِلۡبَشَرِ﴾ أي: ما هذه الآيات إلَّا تذكير وموعظة لهم.
﴿كَلَّا وَٱلۡقَمَرِ ﴿٣٢﴾ وَٱلَّیۡلِ إِذۡ أَدۡبَرَ ﴿٣٣﴾ وَٱلصُّبۡحِ إِذَاۤ أَسۡفَرَ﴾ كلمة ﴿كَلَّا﴾ هنا أفادَت الاستفتاح وتأكيد القسم الذي بعدها، ثم أقسَمَ الله بالقمر والليل في حالة إدباره، والنهار في حالة إسفاره؛ تنبيهًا إلى عظيم آيات الله ودلائل وحدانيَّته، ودقّة صنعته وعنايته ولُطفه بهذا الخلق.
﴿إِنَّهَا لَإِحۡدَى ٱلۡكُبَرِ﴾ هذا هو الخبر المقسَم عليه والمراد تأكيده والتنبيه لخطره، والإشارة في ﴿إِنَّهَا﴾ إلى سقر التي تقدَّم ذِكرها، و﴿لَإِحۡدَى ٱلۡكُبَرِ﴾ أي: واحدة من الطامّات الكبيرة.
﴿نَذِیرࣰا لِّلۡبَشَرِ﴾ أي: إنّ الإخبار بها قُصِدَ به الإنذار؛ لكي يتَّقيها الناس ويأخذوا حذرهم منها.
﴿لِمَن شَاۤءَ مِنكُمۡ أَن یَتَقَدَّمَ أَوۡ یَتَأَخَّرَ﴾ أي: بعد هذا الإنذار البيِّن لم يبق لكم عذرٌ؛ فمَن شاء أن يتقدَّم بالخير والعمل الصالح، ومَن شاء أن يتقهقَر بالظلم والعمل الطالح، بمعنى أنّ كلّ إنسانٍ يتحمَّل مسؤوليَّته ومسؤوليَّة خياره وقراره.
﴿كُلُّ نَفۡسِۭ بِمَا كَسَبَتۡ رَهِینَةٌ﴾ أي: كلُّ نفسٍ مرهونة ومحبوسة بعملها، وهذا تهديدٌ لأصحاب الباطل؛ لأنّهم هم الذين يُحبَسون بخطاياهم، أمّا أهل الحقِّ فهم مُستثنَون.
﴿إِلَّاۤ أَصۡحَـٰبَ ٱلۡیَمِینِ﴾ هذا هو الاستثناء؛ فأصحاب اليمين لا يُحبَسون، بل هم مُطلَقون ومُستبشِرون بنتائج أعمالهم.
﴿فِی جَنَّـٰتࣲ یَتَسَاۤءَلُونَ ﴿٤٠﴾ عَنِ ٱلۡمُجۡرِمِینَ﴾أي: وهم في الجنّات يتذكَّرون المجرمين مِمَّن كانوا يعرفونهم، فيسألونهم:
﴿مَا سَلَكَكُمۡ فِی سَقَرَ﴾ ما الذي أوردَكم هذا المورِد؟
﴿قَالُواْ لَمۡ نَكُ مِنَ ٱلۡمُصَلِّینَ ﴿٤٣﴾ وَلَمۡ نَكُ نُطۡعِمُ ٱلۡمِسۡكِینَ ﴿٤٤﴾ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ ٱلۡخَاۤىِٕضِینَ ﴿٤٥﴾ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِیَوۡمِ ٱلدِّینِ﴾ هكذا يعترفون بخطاياهم؛ فمنها ما يتعلق بحقِّ خالصٍ لله؛ كالصلاة، ومنها ما يشترك فيه حقّ الناس والمجتمع الذي يعيشون فيه؛ كإطعام المساكين، ثم يُبيّنون أصل الخطايا كلّها، وهو التكذيب بيوم الحساب، مُشيرين إلى السبب الذي جعلهم في هذه الدائرة الآثمة المغلقة، وهو أنّهم كانوا يخوضون مع الخائضين دون تفكيرٍ ولا تمييزٍ، وهذه لا شكّ إحدى أسباب الضلال والشلَل الذي يُصيب العقل فلا يفكِّر إلّا بما يرضي الجمهور ولو كان الجمهور جاهلًا ومنحرِفًا.
﴿حَتَّىٰۤ أَتَىٰنَا ٱلۡیَقِینُ﴾ أي: حتى تيقنّا أننا كنّا على الباطل بهذا الذي نحن فيه.
﴿فَمَا تَنفَعُهُمۡ شَفَـٰعَةُ ٱلشَّـٰفِعِینَ﴾ إذ الشفاعة لا تكون لمشرك، ولا تكون إلَّا من بعد إذنه تعالى ورضاه.
﴿كَأَنَّهُمۡ حُمُرࣱ مُّسۡتَنفِرَةࣱ ﴿٥٠﴾ فَرَّتۡ مِن قَسۡوَرَةِۭ﴾ شبَّه حالهم في نفورهم من القرآن بحال الحُمُر الوحشيّة التي تفِرُّ ممَّن تظنُّ أنّه يطلبها مِن صيّادي الإنس أو ضواري الوحوش، و الحُمُر جمع حمار، والمقصود به الوحشي؛ لأنّ الحُمُر الأهليَّة ليست غرضًا للصيد، والقسورة جمع قَسوَر، وهو الرامي، وقيل: هو مفرد بمعنى الأسد، وهو من الكلمات المُعرَّبة، وكلاهما يشتركان في معنى الصيد، والله أعلم.
﴿بَلۡ یُرِیدُ كُلُّ ٱمۡرِئࣲ مِّنۡهُمۡ أَن یُؤۡتَىٰ صُحُفࣰا مُّنَشَّرَةࣰ﴾ هذا من عنادهم وبطرهم وتفنُّنهم في طرائق تكذيبهم؛ فكلّ واحدٍ منهم يشترِط أن يُنزِّل الله عليه صُحُفًا مفتوحةً ومفصَّلةً لينظر فيها، وبعد ذلك يُفكِّر في الإيمان، وهذا النَّمَط نراه اليوم في صورٍ أخرى من بعض المُتعالِمين الذين يرفضون الأخذ بالمنقول من الروايات ولو كانت بأعلى الأسانيد، بل ولو كانت مُتواترة، ولا يُقيم وزنًا للمناهج العلميَّة في التوثيق والترجيح، وكأنَّه لا يريد أن يؤمن إلَّا بما تقع عليه حواسُّه من الأحداث، وهذا إبطالٌ للتاريخ كلّه، وتشكيكٌ في أحداثه، وهدمٌ للتراث والثروة الفكريّة والعلميّة المنقولة على مرِّ الأجيال، بل وفيه التشكيك بالسُّنَّة المُشرَّفة من حيث إنَّها رواياتٌ منقولةٌ.
﴿كَلَّاۖ بَل لَّا یَخَافُونَ ٱلۡأَخِرَةَ﴾ هذا هو أصل الدّاء، ومبعث العناد والجرأة على الظلم والفساد.
﴿كَلَّاۤ إِنَّهُۥ تَذۡكِرَةࣱ﴾ أي: إنّ القرآن كافٍ للتذكّر والاعتبار عن كلّ تلك الصحف التي يريدونها لو كانوا يبحثون صدقًا عن طريق الهداية.
﴿فَمَن شَاۤءَ ذَكَرَهُۥ﴾ أي: فمن شاء الهداية ذَكَرَ القرآن وتلاه وتدبّره، وهذا ترغيبٌ بالرجوع إلى القرآن وما فيه من أسباب الهداية، ودلائل الصدق.
﴿وَمَا یَذۡكُرُونَ إِلَّاۤ أَن یَشَاۤءَ ٱللَّهُۚ﴾ هذا استثناءٌ قُصِدَ به التنبيه إلى إرادة الله المطلقة، وسننه الحاكمة؛ فالله بمشيئته أنزل القرآن، وبمشيئته منح الإنسان القدرة على التفكير والتمييز، ومنحه القدرة على الاختيار، وقد اقتَضَت إرادته وحكمته سبحانه ألا يمنَع مُهتديًا يطلب الهداية، ولا يُكرِه أحدًا على فعلِ ما لا يرضاه، وهذا مُقتضَى الاختبار العادل والتمييز الحقّ الذي ينبَنِي عليه الثواب والعقاب، والله أعلم.