سورة التوبة تفسير مجالس النور الآية 102

وَءَاخَرُونَ ٱعۡتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمۡ خَلَطُواْ عَمَلࣰا صَـٰلِحࣰا وَءَاخَرَ سَیِّئًا عَسَى ٱللَّهُ أَن یَتُوبَ عَلَیۡهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورࣱ رَّحِیمٌ ﴿١٠٢﴾

تفسير مجالس النور سورة التوبة

المجلس الثالث والثمانون: أهل الإيمان


من الآية (100- 129)


بعد الحديث عن المشركين ثم أهل الكتاب ثم المنافقين والمتخلِّفِين عن تبوك وما اقتضاه الأمر من تشريعٍ وتوجيهٍ وتنبيهٍ جاء القسم الأخير من السورة ليتحدَّث عن أهل الإيمان؛ ليُعطي صورة تقويميَّة قريبة لهذه الأمة التي آمَنَت بالله ورسوله، وتحمَّلَت أعباء هذه الدعوة بأمانة وصدق:
أولًا: ذكر الصفات العامة التي تُميِّزُ هذه الأمة عن غيرها ﴿ٱلتَّـٰۤىِٕبُونَ ٱلۡعَـٰبِدُونَ ٱلۡحَـٰمِدُونَ ٱلسَّـٰۤىِٕحُونَ ٱلرَّ ٰ⁠كِعُونَ ٱلسَّـٰجِدُونَ ٱلۡـَٔامِرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَٱلنَّاهُونَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَٱلۡحَـٰفِظُونَ لِحُدُودِ ٱلـلَّـهِۗ﴾، ﴿یُقَـٰتِلُونَ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ فَیَقۡتُلُونَ وَیُقۡتَلُونَۖ﴾، ﴿مَا كَانَ لِأَهۡلِ ٱلۡمَدِینَةِ وَمَنۡ حَوۡلَهُم مِّنَ ٱلۡأَعۡرَابِ أَن یَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ ٱللَّهِ وَلَا یَرۡغَبُواْ بِأَنفُسِهِمۡ عَن نَّفۡسِهِۦۚ ذَ ٰ⁠لِكَ بِأَنَّهُمۡ لَا یُصِیبُهُمۡ ظَمَأࣱ وَلَا نَصَبࣱ وَلَا مَخۡمَصَةࣱ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ وَلَا یَطَـُٔونَ مَوۡطِئࣰا یَغِیظُ ٱلۡكُفَّارَ وَلَا یَنَالُونَ مِنۡ عَدُوࣲّ نَّیۡلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُم بِهِۦ عَمَلࣱ صَـٰلِحٌۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا یُضِیعُ أَجۡرَ ٱلۡمُحۡسِنِینَ﴾، ﴿فَأَمَّا ٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ فَزَادَتۡهُمۡ إِیمَـٰنࣰا وَهُمۡ یَسۡتَبۡشِرُونَ﴾.
ثانيًا: تصنيف هذه الأمة باعتبارات مختلفة؛ فالمهاجرون لهم السَّبق، ثم الأنصار، ثم يأتي بعدهم من أحَبَّهم ومشَى على طريقهم ﴿وَٱلسَّـٰبِقُونَ ٱلۡأَوَّلُونَ مِنَ ٱلۡمُهَـٰجِرِینَ وَٱلۡأَنصَارِ وَٱلَّذِینَ ٱتَّبَعُوهُم بِإِحۡسَـٰنࣲ رَّضِیَ ٱللَّهُ عَنۡهُمۡ وَرَضُواْ عَنۡهُ﴾.
وهناك صِنفٌ أدنى من هؤلاء ﴿وَءَاخَرُونَ ٱعۡتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمۡ خَلَطُواْ عَمَلࣰا صَـٰلِحࣰا وَءَاخَرَ سَیِّئًا عَسَى ٱللَّهُ أَن یَتُوبَ عَلَیۡهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورࣱ رَّحِیمٌ﴾، ﴿وَءَاخَرُونَ مُرۡجَوۡنَ لِأَمۡرِ ٱللَّهِ إِمَّا یُعَذِّبُهُمۡ وَإِمَّا یَتُوبُ عَلَیۡهِمۡۗ وَٱللَّهُ عَلِیمٌ حَكِیمࣱ﴾.
ثم نبَّه إلى أخطاءٍ شخصيَّةٍ تقَع من بعض المؤمنين على خلاف قواعد الإيمان والتقوى لكنها ضمن دائرة التقصير البشري المعهود ﴿مِنۢ بَعۡدِ مَا كَادَ یَزِیغُ قُلُوبُ فَرِیقࣲ مِّنۡهُمۡ ثُمَّ تَابَ عَلَیۡهِمۡۚ إِنَّهُۥ بِهِمۡ رَءُوفࣱ رَّحِیمࣱ ﴿١١٧﴾ وَعَلَى ٱلثَّلَـٰثَةِ ٱلَّذِینَ خُلِّفُواْ حَتَّىٰۤ إِذَا ضَاقَتۡ عَلَیۡهِمُ ٱلۡأَرۡضُ بِمَا رَحُبَتۡ وَضَاقَتۡ عَلَیۡهِمۡ أَنفُسُهُمۡ وَظَنُّوۤاْ أَن لَّا مَلۡجَأَ مِنَ ٱللَّهِ إِلَّاۤ إِلَیۡهِ ثُمَّ تَابَ عَلَیۡهِمۡ لِیَتُوبُوۤاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِیمُ﴾ وهؤلاء يُعقِبون تقصيرَهم بالندم السريع والتوبة النصوح.
ثالثًا: ميَّزَ الله في هذه الأمة العلمَ وأهلَ العلم وحمَّلَهم مسؤوليَّة عظيمة ﴿وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِیُضِلَّ قَوۡمَۢا بَعۡدَ إِذۡ هَدَىٰهُمۡ حَتَّىٰ یُبَیِّنَ لَهُم مَّا یَتَّقُونَۚ إِنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَیۡءٍ عَلِیمٌ﴾، ﴿۞ وَمَا كَانَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ لِیَنفِرُواْ كَاۤفَّةࣰۚ فَلَوۡلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرۡقَةࣲ مِّنۡهُمۡ طَاۤىِٕفَةࣱ لِّیَتَفَقَّهُواْ فِی ٱلدِّینِ وَلِیُنذِرُواْ قَوۡمَهُمۡ إِذَا رَجَعُوۤاْ إِلَیۡهِمۡ لَعَلَّهُمۡ یَحۡذَرُونَ﴾.
رابعًا: أوجَبَ الله على أغنياء هذه الأمة الزكاة وأداء الحقوق المالية لمُستحقِّيها؛ لِمَا في هذا من تقويةٍ لأواصر الوحدة والمحبة، وإشاعة روح التعاون والتكافل ﴿خُذۡ مِنۡ أَمۡوَ ٰ⁠لِهِمۡ صَدَقَةࣰ تُطَهِّرُهُمۡ وَتُزَكِّیهِم بِهَا﴾.
خامسًا: أوجَبَ الله على كلِّ مُؤمنٍ أن يكون مع هذه الأمة بانتِمائه وولائه ﴿یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ ٱلصَّـٰدِقِینَ﴾، ﴿لَّمَسۡجِدٌ أُسِّسَ عَلَى ٱلتَّقۡوَىٰ مِنۡ أَوَّلِ یَوۡمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِیهِۚ فِیهِ رِجَالࣱ یُحِبُّونَ أَن یَتَطَهَّرُواْۚ وَٱللَّهُ یُحِبُّ ٱلۡمُطَّهِّرِینَ﴾.
سادسًا: التمييزُ بين هذه الأمة ومن سِواها من الكافِرين والمُنافقين ﴿وَمِمَّنۡ حَوۡلَكُم مِّنَ ٱلۡأَعۡرَابِ مُنَـٰفِقُونَۖ وَمِنۡ أَهۡلِ ٱلۡمَدِینَةِ مَرَدُواْ عَلَى ٱلنِّفَاقِ﴾، ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِیِّ وَٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤاْ أَن یَسۡتَغۡفِرُواْ لِلۡمُشۡرِكِینَ وَلَوۡ كَانُوۤاْ أُوْلِی قُرۡبَىٰ مِنۢ بَعۡدِ مَا تَبَیَّنَ لَهُمۡ أَنَّهُمۡ أَصۡحَـٰبُ ٱلۡجَحِیمِ﴾، ﴿یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ قَـٰتِلُواْ ٱلَّذِینَ یَلُونَكُم مِّنَ ٱلۡكُفَّارِ وَلۡیَجِدُواْ فِیكُمۡ غِلۡظَةࣰۚ وَٱعۡلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلۡمُتَّقِینَ﴾.
سابعًا: التحذيرُ من مكائِدِ المنافقين ومُحاولاتهم لبثِّ الفُرقة بين المسلمين ﴿وَٱلَّذِینَ ٱتَّخَذُواْ مَسۡجِدࣰا ضِرَارࣰا وَكُفۡرࣰا وَتَفۡرِیقَۢا بَیۡنَ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ وَإِرۡصَادࣰا لِّمَنۡ حَارَبَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ مِن قَبۡلُۚ وَلَیَحۡلِفُنَّ إِنۡ أَرَدۡنَاۤ إِلَّا ٱلۡحُسۡنَىٰۖ وَٱللَّهُ یَشۡهَدُ إِنَّهُمۡ لَكَـٰذِبُونَ﴾.


﴿رَّضِیَ ٱللَّهُ عَنۡهُمۡ وَرَضُواْ عَنۡهُ﴾ رضاهم عنه حمدًا وشكرًا وتعظيمًا لنعمته عليهم.
﴿وَمِمَّنۡ حَوۡلَكُم﴾ حول المدينة.
﴿مَرَدُواْ عَلَى ٱلنِّفَاقِ﴾ تمرَّسُوا فيه واستمرُّوا عليه.
﴿لَا تَعۡلَمُهُمۡۖ﴾ بأسمائهم كلهم على وجه اليقين إلا بوحيٍ من الله، وهذا النفيُ لا يُنافِي معرفته بهم من خلال توسُّمِه بسلوكهم اليومي وأماراتهم الظاهرة.
﴿خَلَطُواْ عَمَلࣰا صَـٰلِحࣰا وَءَاخَرَ سَیِّئًا عَسَى ٱللَّهُ أَن یَتُوبَ عَلَیۡهِمۡۚ﴾ هؤلاء فئة من المؤمنين؛ بدليل شمولهم بالتوبة، وكلمة (عسى) تفيد الرجاء وقُرب تحقُّق ما بعدها، والآية تُمهِّد لبيان حال المتخلِّفين كسلًا وتهاونًا، لا كفرًا ونفاقًا.
﴿خُذۡ مِنۡ أَمۡوَ ٰ⁠لِهِمۡ صَدَقَةࣰ﴾ إشارة إلى مركزيَّة تنظيم الزكاة أخذًا وصَرفًا، فلا تُوكَل إلى اجتهادات الأشخاص ورغباتهم وما يصحبها من منَّةٍ على الفقراء، وتحيُّزٍ لبعضهم دون بعض، وضياع لمنهجية محاربة الفقر ومعالجة أسبابه في المجتمع.
﴿تُطَهِّرُهُمۡ وَتُزَكِّیهِم﴾ تطهيرٌ من لوث الذنوب والمال الحرام، وتزكية للنفوس من صفات البخل والطمع وما أشبه، وفيها أيضًا تطهير للمجتمع كله، وتزكية له من أمراض التحاسد، والتباغض، وسوء الظن.
﴿وَصَلِّ عَلَیۡهِمۡۖ إِنَّ صَلَوٰتَكَ سَكَنࣱ لَّهُمۡۗ﴾ ادعُ لهم، فدعاءُ النبيِّ مُستجابٌ، وهو سببٌ من أسباب نزول الرحمات الإلهيَّة، وفيه تقويةٌ لإيمانهم، وطمأنةٌ لقلوبهم، وتثبيتٌ لأقدامهم.
﴿وَقُلِ ٱعۡمَلُواْ﴾ خطابٌ عامٌّ لكلِّ مؤمنٍ، وشاملٌ لكلِّ أعمال الخير والبرِّ، وفيه إشارةٌ أنه شرطٌ للتوبة الصادقة؛ لأنه جاء عقِبَ قوله: ﴿أَلَمۡ یَعۡلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ هُوَ یَقۡبَلُ ٱلتَّوۡبَةَ عَنۡ عِبَادِهِۦ﴾ فالتوبة تعني: التصحيح ودفع السيئات بالحسنات، وليست مجرد حسرة في القلوب، وهمهمة في الأفواه.
﴿فَسَیَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمۡ وَرَسُولُهُۥ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَۖ﴾ إشارة إلى الجِدِّ والاجتهاد في الإصلاح والدعوة إلى الخير، وهذه لا تَخفَى على أحد، فيراها المؤمنون، ويشهَدون لها، وينتفعون بها، وإن كان أصل العمل القُربَى لله والاتِّباع لرسوله .
ومن ظنَّ أن شهادةَ المؤمنين ليست مطلوبة - لأنها قد تكون بابًا للرياء - فقد وَهِمَ، والتَبَسَ عليه الأمر؛ فالعمل مع المؤمنين واجب، والسُّمعة الطيِّبة مشروعة، وإخلاص العمل لله في السر والعلن واجب، والمؤمن الحصيف يجمع بين كلِّ هذه المطالب ولا يفرِّق.
﴿وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَـٰلِمِ ٱلۡغَیۡبِ وَٱلشَّهَـٰدَةِ﴾ فعِلْمُ الخلق وشهادتهم مهما بلغت فهي ناقصة؛ لأنها تدور في عالم الشهادة، أما النوايا وخفايا النفوس فلا يعلمها إلا الله.
﴿وَءَاخَرُونَ مُرۡجَوۡنَ لِأَمۡرِ ٱللَّهِ﴾ مُؤخَّرون إلى أجلٍ يعلَمُه الله، وهذه نزلت في الثلاثة الذين تخلَّفُوا دون عُذر، وهم: كعب بن مالك، وهلال بن أُميَّة، ومُرارةُ بن الرَّبِيع، وقد تابَ الله عليهم فيما بعد رضِيَ الله عنهم وأرضاهم، وقصَّتهم معروفة في كتب السنَّة.
﴿مَسۡجِدࣰا ضِرَارࣰا﴾ بناه المنافقون بقصد الإضرار بالمسلمين.
﴿وَإِرۡصَادࣰا﴾ تهيئةً وإعدادًا للعدو المحارب لله ورسوله.
﴿لَا تَقُمۡ فِیهِ أَبَدࣰاۚ﴾ نهيٌ لرسول الله أن يصلي فيه، والأمة تابعة له في ذلك، وقد بعث النبيُّ من يقوم بهدمه وإزالته.
﴿لَّمَسۡجِدٌ أُسِّسَ عَلَى ٱلتَّقۡوَىٰ مِنۡ أَوَّلِ یَوۡمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِیهِۚ﴾ هو مسجد قباء المبارك، وقد كان رسول الله يزور هذا المسجد ويرغب بزيارته.
﴿فِیهِ رِجَالࣱ یُحِبُّونَ أَن یَتَطَهَّرُواْۚ وَٱللَّهُ یُحِبُّ ٱلۡمُطَّهِّرِینَ﴾ مدحٌ لأهل قباء، وقد أطلق التطهُّر دون تحديد؛ ليشمل تطهُّرهم الظاهر والباطن؛ تطهُّر الأجساد، وتطهُّر القلوب والنفوس، وقرينة إرادة الباطن مع الظاهر سبق قوله: ﴿خُذۡ مِنۡ أَمۡوَ ٰ⁠لِهِمۡ صَدَقَةࣰ تُطَهِّرُهُمۡ وَتُزَكِّیهِم بِهَا﴾، والله أعلم.
﴿عَلَىٰ تَقۡوَىٰ مِنَ ٱللَّهِ وَرِضۡوَ ٰ⁠نٍ﴾ أي: بدافع التقوى، وقصد الرضوان.
﴿عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارࣲ﴾ طرف مشرف على السقوط؛ تشبيهًا لبطلان عمل المنافقين وإن كان ظاهره مسجدًا يُتقرَّب به إلى الله.
﴿فَٱنۡهَارَ بِهِۦ فِی نَارِ جَهَنَّمَۗ﴾ كانت هذه الأعمال سببًا في دخولهم النار؛ لأنها بُنِيَت على باطلٍ ونيةٍ سيئةٍ.
﴿لَا یَزَالُ بُنۡیَـٰنُهُمُ ٱلَّذِی بَنَوۡاْ رِیبَةࣰ فِی قُلُوبِهِمۡ إِلَّاۤ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمۡۗ﴾ أعمالهم هذه متلبِّسة بالشك الدائم والمستمر بسبب مرضٍ في قلوبهم، وهذا المرض لن يزول عنهم حتى تتقطَّع قلوبهم بالموت.
﴿۞ إِنَّ ٱللَّهَ ٱشۡتَرَىٰ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ أَنفُسَهُمۡ وَأَمۡوَ ٰ⁠لَهُم بِأَنَّ لَهُمُ ٱلۡجَنَّةَۚ﴾ هذا من عظيم كرم الله؛ أنه وهَبَ لعباده حياتهم وأموالهم ثم اشتراها منهم بجنَّة فيها حياة أفضل من حياتهم، ونعيم أفضل من نعيمهم وأموالهم، والسلعة والثمن كلاهما من الله، فتبارك الله الكريم الرحيم.
﴿ٱلتَّـٰۤىِٕبُونَ ٱلۡعَـٰبِدُونَ﴾ قدَّم التوبةَ على العبادة؛ لأن التخلِيَة قبل التحلِيَة، مع أن التوبة عبادة أيضًا.
﴿ٱلسَّـٰۤىِٕحُونَ﴾ التاركون لمتاع الدنيا وشهواتها، والمنقطِعون إلى العبادة التي تتطلَّب هذا الترك؛ كالصيام الذي يتطلَّب البُعد عن الطعام والشراب والجماع، وكالجهاد الذي يتطلَّب البُعد عن الديار، ومُجافاة الراحة والدَّعَة والنوم، والله أعلم.
﴿ٱلۡـَٔامِرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَٱلنَّاهُونَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ﴾ المعروف: كلُّ مطلوبٍ شَرعًا، والمنكر: كلُّ محظورٍ شرعًا، أما ما كان في دائِرة الاجتهاد مما قد يحصُل الخلاف فيه بين أهل العلم، فلا يدخل في هذا الباب؛ لأن الاجتهاد يدور بين الأجر والأجرين وليس في أحدهما إثم، وإنما المنكر الإثم، والله أعلم.
﴿مَا كَانَ لِلنَّبِیِّ وَٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤاْ أَن یَسۡتَغۡفِرُواْ لِلۡمُشۡرِكِینَ وَلَوۡ كَانُوۤاْ أُوْلِی قُرۡبَىٰ﴾ المقصود بهم من ماتوا على الكفر بعد أن بلَغَتهم الدعوة، وهذا من تمام المفاصلة والتمايز في الهويَّة، أما من لم تبلغهم الدعوة فليسوا مُكلَّفين أصلًا.
﴿إِلَّا عَن مَّوۡعِدَةࣲ وَعَدَهَاۤ إِیَّاهُ﴾ قبل نزول النهي.
﴿لَأَوَّ ٰ⁠هٌ﴾ متضرِّعٌ إلى الله بكثرة الدعاء والإنابة.
﴿سَاعَةِ ٱلۡعُسۡرَةِ﴾ غزوة تبوك، والمقصود بالساعة: الوقت وليس الوحدة الزمانيَّة المعروفة، وقد اجتمعت في هذه الغزوة المشاقُّ كلها؛ شدَّة الحر، وبُعد المسافة، وقلَّة الزاد والراحلة.
﴿مِنۢ بَعۡدِ مَا كَادَ یَزِیغُ قُلُوبُ فَرِیقࣲ مِّنۡهُمۡ﴾ شكًّا بوعد الله في إكمال الدين وإتمام النعمة؛ لشدَّة ما لاقَوه في هذه الغزوة من عُسرٍ وجوعٍ وظمأٍ، حتى إنَّ الرجُلَين كانا يشُقَّان التمرة بينهما، وكانوا يعصِرون فَرثَ البعير بعد ذَبحِه ابتِغاءَ الماء!
﴿حَتَّىٰۤ إِذَا ضَاقَتۡ عَلَیۡهِمُ ٱلۡأَرۡضُ بِمَا رَحُبَتۡ وَضَاقَتۡ عَلَیۡهِمۡ أَنفُسُهُمۡ﴾ مثالٌ يُحتَذَى في صدق التوبة وحرارة الندم، وهكذا يكون الصحابة  مثلًا في كلِّ خيرٍ حتى حينما يقعون في الذنب.
﴿ثُمَّ تَابَ عَلَیۡهِمۡ لِیَتُوبُوۤاْۚ﴾ اللام للتعليل، ومعناه: أن الله قَبِلَ توبتهم ليداوموا على حالة الصدق هذه وحسن التعبُّد، فالإنابة كانت منهم أولًا، ولم تنزِل توبتهم إلا بعد خمسين يومًا وليلة، حتى ضاقَت عليهم أنفسهم؛ ولهذا قال: ﴿ثُمَّ تَابَ عَلَیۡهِمۡ﴾ أي: بعد كلِّ هذا الندم، ومن ظنَّ أن الله تابَ عليهم ابتداء قبل أن يبدؤوا هم بالتوبة فقد وَهِمَ، والله أعلم.
﴿وَلَا نَصَبࣱ﴾ ولا تعبٌ.
﴿وَلَا مَخۡمَصَةࣱ﴾ ولا مجاعةٌ.
﴿۞ وَمَا كَانَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ لِیَنفِرُواْ كَاۤفَّةࣰۚ﴾ إلى الجهاد، فالنَّفير إلى الجهاد إنما يكون بقدر الحاجة؛ ليتفرَّغ الباقون إلى أعمال الحياة الأخرى؛ كالصناعة، والزراعة، والتجارة، ورعاية شؤون الناس.
﴿فَلَوۡلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرۡقَةࣲ مِّنۡهُمۡ طَاۤىِٕفَةࣱ لِّیَتَفَقَّهُواْ فِی ٱلدِّینِ﴾ أمر بالنَّفير إلى العلم، فهذا نفير وذاك نفير، وليسا هما واحدًا، وإنما سمى الخروج لطلب العلم نفيرًا كما سمى الخروج للجهاد؛ تنبيهًا على خطر العلم، وأنه لا يقِلُّ أهميةً عن الجهاد إن لم يتقدَّم عليه، وكما أن الخروجَ للجهاد لا يكون من كلِّ الناس، فكذلك الخروج للعلم.
وفي الآية إشارة إلى أن كلَّ حيٍّ أو قريةٍ أو قبيلةٍ من المسلمين عليهم أن ينتدبوا بعضًا منهم لطلب العلم، وحينما كان رسول الله موجودًا فعلى طلبة العلم أن ينفروا إليه حيثما كان في المدينة أو الغزو، ثم يرجعوا إلى أقوامهم لينشروا فيهم ما تعلَّمُوه، وبعد موته تكون النُّفرة إلى حيث العلم، ويكون معنى الآية الإجمالي: أن المؤمنين لا ينفِرون كلُّهم إلى الجهاد، بل منهم من لا بدَّ أن ينفِر إلى العلم أينما كان مصدر هذا العلم، وهذا القول أَولَى ممن حصَرَ العلم في الغزو، أو حصَرَه في المدينة، والله أعلم.
﴿قَـٰتِلُواْ ٱلَّذِینَ یَلُونَكُم مِّنَ ٱلۡكُفَّارِ﴾ المحاربين، وهؤلاء أشد خطرًا على المسلمين بحكم قُربهم من دار الإسلام، أما المعاهدون وأهل الذمة ومن ليس له شوكة فهؤلاء لهم أحكام أخرى، ولا يصح بَدؤُهم بقتال.
﴿وَأَمَّا ٱلَّذِینَ فِی قُلُوبِهِم مَّرَضࣱ فَزَادَتۡهُمۡ رِجۡسًا إِلَىٰ رِجۡسِهِمۡ﴾ هم المنافقون لا تزيدهم الآيات إلا كفرًا وحسدًا وعداوةً للمؤمنين.
﴿أَوَلَا یَرَوۡنَ أَنَّهُمۡ یُفۡتَنُونَ فِی كُلِّ عَامࣲ مَّرَّةً أَوۡ مَرَّتَیۡنِ ثُمَّ لَا یَتُوبُونَ وَلَا هُمۡ یَذَّكَّرُونَ﴾ لم يُعرف أن المنافقين كانوا يُصابون بمرضٍ أو قحطٍ أو نكبةٍ خاصة بهم، فتأويل الفتنة بهذه المصائب مُستبعَد، والظاهر أنهم يفتنون في الغزوات والأحداث الكبيرة، فيفتضح أمرهم، ويتبيَّن لهم الحقُّ، وأن هذا الرسول مؤيَّدٌ بالوحي، لكنهم يُصرُّون على نفاقهم فلا يتوبون ولا يذَّكَّرون، والله أعلم.
﴿وَإِذَا مَاۤ أُنزِلَتۡ سُورَةࣱ نَّظَرَ بَعۡضُهُمۡ إِلَىٰ بَعۡضٍ هَلۡ یَرَىٰكُم مِّنۡ أَحَدࣲ ثُمَّ ٱنصَرَفُواْۚ﴾ صورة عملية ومتكررة؛ فالمنافقون يحضرون مع المسلمين الصلاة والمواعظ، فإذا نزلت آيات تمَسُّهم ولا تُعجِبهم آثروا الانصراف خُفيةً بحيث لا يشعر بهم أحدٌ، أو هكذا يظنُّون.
﴿عَزِیزٌ عَلَیۡهِ مَا عَنِتُّمۡ﴾ أي: يعزُّ عليه أن يراكم في شدَّةٍ ومشقّةٍ، بل هو لرحمته بكم لا يريد لكم إلا الخير واليسر .
﴿بِٱلۡمُؤۡمِنِینَ رَءُوفࣱ رَّحِیمࣱ﴾ صفتان لرسول الله ومعناهما متقارب، ولا تشتبهان بأسماء الله الحسنى؛ الرءوف والرحيم؛ لأن الله ليس كمثله شيء، وليس كصفته صفات، فرأفةُ رسول الله ورحمته صفتان بشريتان وإن كانتا بأعلى ما يمكن أن يتَّصِف بهما بشر.