في هذه المجموعة من الآيات يعرض القرآن لمنظومة من القيم والأخلاق التي تُؤسِّس لمجتمعٍ نظيفٍ ومُتماسكٍ، يجِدُ الفردُ فيه أمنَه وسكينتَه وأُلفتَه:
أولًا: بر الوالدين
﴿۞ وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعۡبُدُوۤاْ إِلَّاۤ إِیَّاهُ وَبِٱلۡوَ ٰلِدَیۡنِ إِحۡسَـٰنًاۚ﴾ قرَنَ البرَّ بالتوحيد، بل جعل التوحيد مدخلًا للحديث عنه، والتنويه بشأنه وخطره، ثم ذكَّرَ بما يستدِرُّ العاطفة
﴿إِمَّا یَبۡلُغَنَّ عِندَكَ ٱلۡكِبَرَ﴾، فكبير السن مهما كان مُستحقًّا للتوقير والرعاية، فكيف إذا كان والدًا؟
ثم فصَّلَ
﴿أَحَدُهُمَاۤ أَوۡ كِلَاهُمَا﴾، واحتاطَ غايةَ الحَيطة بقوله:
﴿فَلَا تَقُل لَّهُمَاۤ أُفࣲّ﴾ وهي مثالٌ لأدنَى العُقوق؛ كي يتنزَّه الناسُ عما هو فوقه، ثم أمر بالتذلُّل لهما:
﴿وَٱخۡفِضۡ لَهُمَا جَنَاحَ ٱلذُّلِّ مِنَ ٱلرَّحۡمَةِ﴾ والدعاء المستمر حبًّا ووفاءً لهما
﴿وَقُل رَّبِّ ٱرۡحَمۡهُمَا كَمَا رَبَّیَانِی صَغِیرࣰا﴾.
ثانيًا: صلة الرحِم
﴿وَءَاتِ ذَا ٱلۡقُرۡبَىٰ حَقَّهُۥ﴾.
ثالثًا: رعاية المسكين وإعانة المُحتاج
﴿وَٱلۡمِسۡكِینَ وَٱبۡنَ ٱلسَّبِیلِ﴾.
رابعًا: الابتعاد عن التبذير
﴿وَلَا تُبَذِّرۡ تَبۡذِیرًا ﴿٢٦﴾ إِنَّ ٱلۡمُبَذِّرِینَ كَانُوۤاْ إِخۡوَ ٰنَ ٱلشَّیَـٰطِینِۖ وَكَانَ ٱلشَّیۡطَـٰنُ لِرَبِّهِۦ كَفُورࣰا﴾، وليس بعد الترهيب مِن ترهيبٍ، فاعجَب بعد هذا لمن يُبذِّر أموال الأمة وثرواتها فيما لا فائدة فيه، أو يُسرف في الولائم والمناسبات غايةَ الإسراف، ثم يدَّعِي أنَّ هذا من الكرم، والكرم إنما هو البذلُ دون تحرُّج أو تردُّد في وجوه الخير، أما أكوام الطعام التي يُدعَى لها الأغنياء والمُترَفون، ويُحرَم منها الفقراء والمُعدَمون، فهذا هو الإسرافُ والتبذيرُ الذي حرَّمَه الله.
خامسًا: الاقتصاد في النفقة
﴿وَلَا تَجۡعَلۡ یَدَكَ مَغۡلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبۡسُطۡهَا كُلَّ ٱلۡبَسۡطِ فَتَقۡعُدَ مَلُومࣰا مَّحۡسُورًا﴾، وهذه النقطةُ تتمَّةٌ وتفصيلٌ لما قبلها.
سادسًا: القول اللَّيِّن
﴿فَقُل لَّهُمۡ قَوۡلࣰا مَّیۡسُورࣰا﴾.
سابعًا: الحفاظ على الأولاد وعدم تعريضهم للهلاك مهما كانت الأسباب
﴿وَلَا تَقۡتُلُوۤاْ أَوۡلَـٰدَكُمۡ خَشۡیَةَ إِمۡلَـٰقࣲۖ نَّحۡنُ نَرۡزُقُهُمۡ وَإِیَّاكُمۡۚ إِنَّ قَتۡلَهُمۡ كَانَ خِطۡـࣰٔا كَبِیرࣰا﴾.
ثامنًا: البُعد عن الزنا وكلِّ ما يُقرِّب منه
﴿وَلَا تَقۡرَبُواْ ٱلزِّنَىٰۤۖ إِنَّهُۥ كَانَ فَـٰحِشَةࣰ وَسَاۤءَ سَبِیلࣰا﴾.
تاسعًا: الحفاظ على حياة الناس وتحريم القتل
﴿وَلَا تَقۡتُلُواْ ٱلنَّفۡسَ ٱلَّتِی حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلَّا بِٱلۡحَقِّ ۗ﴾.
عاشرًا: الحفاظ على أموال اليتامى
﴿وَلَا تَقۡرَبُواْ مَالَ ٱلۡیَتِیمِ إِلَّا بِٱلَّتِی هِیَ أَحۡسَنُ حَتَّىٰ یَبۡلُغَ أَشُدَّهُۥۚ﴾.
حادي عشر: الوفاء بالعهد
﴿وَأَوۡفُواْ بِٱلۡعَهۡدِۖ إِنَّ ٱلۡعَهۡدَ كَانَ مَسۡـُٔولࣰا﴾.
ثاني عشر: العدل في الميزان وتجنُّب أكل أموال الناس بالباطل
﴿وَأَوۡفُواْ ٱلۡكَیۡلَ إِذَا كِلۡتُمۡ وَزِنُواْ بِٱلۡقِسۡطَاسِ ٱلۡمُسۡتَقِیمِۚ﴾.
ثالث عشر: التثبُّت والتأكُّد من المعلومة قبل نشرها أو الأخذ بها
﴿وَلَا تَقۡفُ مَا لَیۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌۚ إِنَّ ٱلسَّمۡعَ وَٱلۡبَصَرَ وَٱلۡفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَــٰۤىِٕكَ كَانَ عَنۡهُ مَسۡـُٔولࣰا﴾.
رابع عشر: التواضُع وعدم التكبُّر على خلق الله
﴿وَلَا تَمۡشِ فِی ٱلۡأَرۡضِ مَرَحًاۖ إِنَّكَ لَن تَخۡرِقَ ٱلۡأَرۡضَ وَلَن تَبۡلُغَ ٱلۡجِبَالَ طُولࣰا﴾.
خامس عشر: التوحيد في البدء والختام، ففي البدء قال:
﴿۞ وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعۡبُدُوۤاْ إِلَّاۤ إِیَّاهُ﴾، وفي الختام قال:
﴿وَلَا تَجۡعَلۡ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهًا ءَاخَرَ فَتُلۡقَىٰ فِی جَهَنَّمَ مَلُومࣰا مَّدۡحُورًا﴾.
تجدُرُ الإشارة هنا إلى أن هذه الوصايا قد ورَدَت بألفاظ متقاربة في الوصايا العشر الواردة في سورة
الأنعام، مع بعض التوسُّع هنا والتفصيل، وإذا عُلِم أن السورتَين نزَلَتا بمكة، أدرَكنا مدى اهتمام القرآن المبكر بمنظومة القيم والأخلاق، وبهذا التفصيل والتأكيد، على خلاف ما كان يظنُّه بعضُ الباحثين في القرآن مِن أنَّ القرآن المكي لم يتعرَّض إلا لمسائل التوحيد والعقيدة!
نعم إنَّ إلزامية التشريع وتنفيذه على الناس يحتاج إلى الدولة، لكن منظومة القيم والأخلاق مُتعلِّقة ببناء المجتمع قبل بناء الدولة؛ وإنما الدولة تنبَثِق من المجتمع، وتعكِس صورته الذاتية وبناءه الداخلي.