أولًا: الحذر من لبس الحق بالباطل:
من الآيات الأولى في تجربة بني إسرائيل جاء قوله تعالى محذِّرًا لهم:
﴿وَلَا تَلۡبِسُواْ ٱلۡحَقَّ بِٱلۡبَـٰطِلِ﴾، وفي هذا المقطع يخاطب الله الذين آمنوا:
﴿لَا تَقُولُواْ رَ ٰعِنَا وَقُولُواْ ٱنظُرۡنَا﴾.
وكلمة
﴿رَ ٰعِنَا﴾ تحتمل حقًّا وباطلًا، الحق بمعناها اللغوي: أن اسمع لنا وتأنّ بنا، والباطل في استخدام اليهود لها شتما وانتقاصا من المخاطب، ويعنون بها الرعونة والحماقة، ولحصول هذا الالتباس بين الاستعمالين جاء النهي الصريح عن توجيه الخطاب بها لنبيِّه
ﷺ، وهذا نموذجٌ عمليٌّ لا غير، والأصل فيه النهي عن كلِّ قول أو فعل يؤدّي إلى التباس الحق بالباطل عند المتلقي، والنية الحسنة لا تكفي هنا، لأن العبرة بما يفهمه السامعون لا بما يقصده المتكلمون.
ثانيًا: الحسد طريق الضلال:
يؤكّد القرآن الكريم في هذا المقطع على خطورة الحسد، ودور هذه الصفة الذميمة في صدّ الناس عن الصراط المستقيم، فيقول أولًا:
﴿مَّا یَوَدُّ ٱلَّذِینَ كَفَرُواْ مِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَـٰبِ وَلَا ٱلۡمُشۡرِكِینَ أَن یُنَزَّلَ عَلَیۡكُم مِّنۡ خَیۡرࣲ مِّن رَّبِّكُمۡۚ وَٱللَّهُ یَخۡتَصُّ بِرَحۡمَتِهِۦ مَن یَشَاۤءُ﴾.
ثم يؤكِّد ويصرِّح أكثر:
﴿وَدَّ كَثِیرࣱ مِّنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَـٰبِ لَوۡ یَرُدُّونَكُم مِّنۢ بَعۡدِ إِیمَـٰنِكُمۡ كُفَّارًا حَسَدࣰا مِّنۡ عِندِ أَنفُسِهِم مِّنۢ بَعۡدِ مَا تَبَیَّنَ لَهُمُ ٱلۡحَقُّ﴾.
ثالثًا: الحكم للرسالة الخاتمة:
في قوله تعالى:
﴿مَا نَنسَخۡ مِنۡ ءَایَةٍ أَوۡ نُنسِهَا نَأۡتِ بِخَیۡرࣲ مِّنۡهَاۤ أَوۡ مِثۡلِهَاۤ﴾ ذهب أغلب المفسرين إلى أن المقصود بالنسخ هنا النسخ في آيات القرآن الكريم نفسها، فالآية اللاحقة قد تنسخ السابقة لحكمة يقتَضِيها التدرُّج في التشريع.
لكنَّ السياق القرآني يوحي بمعنى آخر قد يكون هو الأقرب والأنسب؛ فالآيات تتحدث عن تجربة استخلافية سابقة وتجربة استخلافية لاحِقة، ورسالة الأولى
﴿التوراة﴾، ورسالة الثانية
﴿القرآن﴾، وقد تنكّر أصحاب التجربة السابقة لهذا القرآن حسدًا من عند أنفسهم مع أنه جاء مصدِّقًا لكتابهم التوراة.
وقد أثار اليهود تساؤلات كثيرة حول صلة القرآن بالتوراة، وكأنَّهم يقولون: إذا كان القرآن مصدِّقا تماما للتوراة فلا حاجة لنا به، وإذا كان مخالفا له فتركه من باب أولى، وقد تقدّم قوله تعالى:
﴿وَإِذَا قِیلَ لَهُمۡ ءَامِنُواْ بِمَاۤ أَنزَلَ ٱللَّهُ قَالُواْ نُؤۡمِنُ بِمَاۤ أُنزِلَ عَلَیۡنَا وَیَكۡفُرُونَ بِمَا وَرَاۤءَهُۥ وَهُوَ ٱلۡحَقُّ مُصَدِّقࣰا لِّمَا مَعَهُمۡ﴾.
وقد جاء ردّ القرآن أن الله جعل القرآن مُصدِّقا للتوراة، وهذا التصديق ليس معناه أن يكون القرآن نسخة من التوراة، فقد يكون النص التوراتي موجودا فينسخه الله بنص القرآن لحكمة يقتضيها التدرج التشريعي المناسب للتطور البشري، وقد يكون النص التوراتي قد فُقد أو
﴿نُسي﴾ بسبب التحريف الذي تقدمت الإشارة إليه، فيأتي النص القرآني معوِّضا هذا النقص، وفي كلتا الح
التين سيكون النص القرآني مثل النص التوراتي في تحقيق غاية التشريع أو أفضل منه من حيث مناسبته لحياة الناس ومصالحهم.
إضافة إلى خصوصيّة القرآن في الإعجاز والبيان، والآية التي قبل آية النسخ مباشرة كانت تناقش بني إسرائيل في سبب رفضهم لرسالة محمد
ﷺ، وبعد آية النسخ تكررت المناقشة ذاتها، وتقرير حال بني إسرائيل،
﴿حَسَدࣰا مِّنۡ عِندِ أَنفُسِهِم مِّنۢ بَعۡدِ مَا تَبَیَّنَ لَهُمُ ٱلۡحَقُّ﴾ والبحث الأصولي المعروف لآية النسخ لا يتأتى إلا بقطعها من هذا السياق كله.
أما المعنى الذي يتَّسِق مع السياق فخلاصتُه: أن آيات القرآن قد نسخت ما خالفها من أحكام شرعية وردت في التوراة، وأنَّها أتمَّت النقص والنسيان الذي حصل في التوراة بسبب طول الزمن والتدخّل البشري في التحريف والتبديل.
وعليه فإن القرآن هو كلام الله الذي ختم به الرسالات، وجعله الله حاكمًا ومهيمنًا عليها، فالآية تتحدث عن محور جوهري في العلاقة بين التجربتين الاستخلافيَّتَين
﴿تجربة بني إسرائيل﴾، و
﴿تجربة المسلمين﴾، والله أعلم.
رابعًا: العبرة بالدليل لا بالأمانيِّ:
﴿وَقَالُواْ لَن یَدۡخُلَ ٱلۡجَنَّةَ إِلَّا مَن كَانَ هُودًا أَوۡ نَصَـٰرَىٰۗ تِلۡكَ أَمَانِیُّهُمۡۗ قُلۡ هَاتُواْ بُرۡهَـٰنَكُمۡ إِن كُنتُمۡ صَـٰدِقِینَ﴾، وهذه قاعدة قرآنية في الحوار والمجادلة.
﴿قُلۡ هَاتُواْ بُرۡهَـٰنَكُمۡ﴾ أي: قدِّموا دليلكم وحجّتكم، فهذا هو الفيصل بين الوهم والحقيقة، وكذاك هي قاعدة في البحث العلمي؛ فالباحث الحق يطلب الحقيقة ويسعى لها سواء كانت كما يتمنى أو لا.
وأهل الأرض يستخدمون هذه القاعدة في العلوم الطبيعية والتجريبية، فتوصّلوا بالفعل إلى نتائج مبهرة في الطب والفلك والصناعات المختلفة، بينما قصّروا في تطبيق هذه القاعدة على البحوث الدينيّة واعتمدوا طريقة التقليد باعتبار أن الدين يمثِّل تراثًا شعبيًّا للأمم، وهو ركن في هويّة كل أمّة؛ كالجنس، واللون، واللغة، والتاريخ، ولا مجال لتغييره؛ ولذلك ترى بقاء ما كان على مكان دون الشعور بالحاجة إلى التغيير.
خامسًا: الإحسان قرين الإسلام:
﴿بَلَىٰۚ مَنۡ أَسۡلَمَ وَجۡهَهُۥ لِلَّهِ وَهُوَ مُحۡسِنࣱ فَلَهُۥۤ أَجۡرُهُۥ عِندَ رَبِّهِۦ﴾ فالإسلام الحق هو الذي يثمر إحسانًا إلى الناس وإتقانًا في العمل، وتلك هي شروط النجاة.
سادسًا: البرهان منهج الصادقين، والعدوان منهج الظالمين:
بعد ما حكاه القرآن عن قول اليهود في النصارى وقول النصارى في اليهود، وكان قبل ذلك كان قد حكى موقف الفريقين من المسلمين، لفت الأنظار إلى سلوك مشين قد تقوم به الأطراف المتخاصمة
﴿وَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَـٰجِدَ ٱللَّهِ أَن یُذۡكَرَ فِیهَا ٱسۡمُهُۥ وَسَعَىٰ فِی خَرَابِهَاۤ﴾، وهذا السلوك يقابل السلوك الذي اختاره القرآن
﴿ قُلۡ هَاتُواْ بُرۡهَـٰنَكُمۡ إِن كُنتُمۡ صَـٰدِقِینَ﴾.
وقد اختلف المفسّرون في تحديد الطرف المقصود بهذه الإدانة، لكنّ السياق يرجّح أن القرآن بصدد وضع قواعد التعامل بين الفُرَقاء المختلفين، وليس للحكم على حدث معيّن، بقرينة تناوله في الآية السابقة للتخاصم بين اليهود والنصارى
﴿وَقَالَتِ ٱلۡیَهُودُ لَیۡسَتِ ٱلنَّصَـٰرَىٰ عَلَىٰ شَیۡءࣲ وَقَالَتِ ٱلنَّصَـٰرَىٰ لَیۡسَتِ ٱلۡیَهُودُ عَلَىٰ شَیۡءࣲ﴾.
وليس هناك مناسبة للحديث عن مساجد المسلمين خاصة؛ إذ لم يكن لهم مساجد في ذلك الوقت قد اعتُدي عليها بالفعل، وأما قريش فقد كانت تفاخر بعمارة المسجد الحرام، حتى ردّهم الله بقوله:
﴿أَجَعَلۡتُمۡ سِقَایَةَ ٱلۡحَاۤجِّ وَعِمَارَةَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ كَمَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡیَوۡمِ ٱلۡـَٔاخِرِ﴾ [التوبة: 19]، والله أعلم.
سابعًا: التمايز بين الحق والباطل:
﴿وَلَن تَرۡضَىٰ عَنكَ ٱلۡیَهُودُ وَلَا ٱلنَّصَـٰرَىٰ حَتَّىٰ تَـتَّـبِعَ مِلَّتَهُمۡۗ قُلۡ إِنَّ هُدَى ٱللَّهِ هُوَ ٱلۡهُدَىٰۗ وَلَىِٕنِ ٱتَّبَعۡتَ أَهۡوَاۤءَهُم بَعۡدَ ٱلَّذِی جَاۤءَكَ مِنَ ٱلۡعِلۡمِ مَا لَكَ مِنَ ٱللَّهِ مِن وَلِیࣲّ وَلَا نَصِیرٍ﴾ وهو تأكيد لما جاء في سورة
الفاتحة ﴿ٱهۡدِنَا ٱلصِّرَ ٰطَ ٱلۡمُسۡتَقِیمَ (٦) صِرَ ٰطَ ٱلَّذِینَ أَنۡعَمۡتَ عَلَیۡهِمۡ غَیۡرِ ٱلۡمَغۡضُوبِ عَلَیۡهِمۡ وَلَا ٱلضَّاۤلِّین﴾.
وهنا إضافة معنى: أن الباطل لا يمكن أن يرضى بشيء من الحق، وهذه حقيقة قرآنية لا تتخلف، والواقع يشهد لها، فمحاولات التقريب بين الديانات والطوائف المختلفة كلها باءت بالفشل، والحل إنما يكون بالوضوح في التمايز بحيث يعرف كل طرف هويته التي تميّزه، ثم بعد هذا نسلك مسلكين:
الأول: التحاور بالدليل والبرهان و
المجادلة بالتي هي أحسن، وهذا هو ما تقتضيه الأمانة العلمية واحترام الحقيقة بلا تلبيس ولا تدليس.
والثاني: البحث في القضايا الحياتيّة سياسيّة واقتصاديّة وخدميّة لوضع الصيغ الكفيلة بالتعاون وتحقيق التعايش السلمي، خاصَّةً لمَن كانوا يعيشون في بلد واحد وعلى أرضٍ واحدةٍ.
وهذان المَسلَكَان مَسلَكَان شرعيَّان أقرَّهما القرآن في آيتَين صريحَتَين:
﴿وَلَا تُجَـٰدِلُوۤاْ أَهۡلَ ٱلۡكِتَـٰبِ إِلَّا بِٱلَّتِی هِیَ أَحۡسَنُ إِلَّا ٱلَّذِینَ ظَلَمُواْ مِنۡهُمۡۖ﴾ [العنكبوت: 46]، و
﴿لَّا یَنۡهَىٰكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِینَ لَمۡ یُقَـٰتِلُوكُمۡ فِی ٱلدِّینِ وَلَمۡ یُخۡرِجُوكُم مِّن دِیَـٰرِكُمۡ أَن تَبَرُّوهُمۡ وَتُقۡسِطُوۤاْ إِلَیۡهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ یُحِبُّ ٱلۡمُقۡسِطِینَ﴾ [الممتحنة: 8].