سورة الشعراء تفسير مجالس النور الآية 10

وَإِذۡ نَادَىٰ رَبُّكَ مُوسَىٰۤ أَنِ ٱئۡتِ ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّـٰلِمِینَ ﴿١٠﴾

تفسير مجالس النور سورة الشعراء

المجلس الحادي والستون بعد المائة: موسى وهارون


من الآية (10- 68)


في هذه الآيات عرضٌ لسيرة النبيَّين الأخوَين الكريمَين موسى وهارون عليهما السلام وما واجهاه في حياتهما الدعوية مِن سطوة فرعون ومكره وسحره، وكيف أنجاهما الله وقومَهما بعد هلاك فرعون وجُنده، ويمكن تلخيص هذه السيرة في النقاط الآتية:
أولًا: أمر الله موسى عليه السلام بالتوجُّه إلى فرعون وقومه ليدعوهم إلى تقوى الله والخروج مِن حالة الكفر والطغيان التي يعيشونها، ولكنَّ موسى بطبعه البشري شَعَر بالخوف مِن فرعون؛ لما يعلمه عنه مِن صلَفٍ وجبروت، فخشِيَ أن يضيق صدره ويتلعثم لسانه، فلا ينجح في مهمته، خاصَّةً أنَّه كان قد قتَلَ رجُلًا مِن قوم فرعون بعد أن استغاثه الذي مِن شيعته، فهرب منهم خائِفًا يترقَّب، فكيف يرجع إليهم اليوم ناصحًا ومُذكِّرًا ومُحذِّرًا؟
لكلِّ ذلك وقف موسى أمام ربه العليم الحكيم، يعرِض ضعفَه وخوالج نفسه، ويطلب من الله المَدَد، وأن يُرسل معه أخاه هارون عليهما السلام، فاستجابَ الله سُؤلَه، وطمأَنَه بالمعيَّة الربانيَّة والعناية الإلهيَّة ﴿وَإِذۡ نَادَىٰ رَبُّكَ مُوسَىٰۤ أَنِ ٱئۡتِ ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّـٰلِمِینَ ﴿١٠﴾ قَوۡمَ فِرۡعَوۡنَۚ أَلَا یَتَّقُونَ ﴿١١﴾ قَالَ رَبِّ إِنِّیۤ أَخَافُ أَن یُكَذِّبُونِ ﴿١٢﴾ وَیَضِیقُ صَدۡرِی وَلَا یَنطَلِقُ لِسَانِی فَأَرۡسِلۡ إِلَىٰ هَـٰرُونَ ﴿١٣﴾ وَلَهُمۡ عَلَیَّ ذَنۢبࣱ فَأَخَافُ أَن یَقۡتُلُونِ ﴿١٤﴾ قَالَ كَلَّاۖ فَٱذۡهَبَا بِـَٔایَـٰتِنَاۤۖ إِنَّا مَعَكُم مُّسۡتَمِعُونَ﴾ وأمرهما أن يطلُبَا مِن فرعون السماحَ لبني إسرائيل بالخروج معهما بعد أن سامَهم سوء العذاب ﴿فَأۡتِیَا فِرۡعَوۡنَ فَقُولَاۤ إِنَّا رَسُولُ رَبِّ ٱلۡعَـٰلَمِینَ ﴿١٦﴾ أَنۡ أَرۡسِلۡ مَعَنَا بَنِیۤ إِسۡرَ ٰ⁠ۤءِیلَ﴾.
ثانيًا: ردَّ فرعون على موسى بعد أن بلَّغَه رسالةَ ربه مُمتنًّا عليه برعايته له في طفولته، ومذكِّرًا له بقتله للرجل الفرعوني ﴿قَالَ أَلَمۡ نُرَبِّكَ فِینَا وَلِیدࣰا وَلَبِثۡتَ فِینَا مِنۡ عُمُرِكَ سِنِینَ ﴿١٨﴾ وَفَعَلۡتَ فَعۡلَتَكَ ٱلَّتِی فَعَلۡتَ وَأَنتَ مِنَ ٱلۡكَـٰفِرِینَ﴾.
ثالثًا: اعترف موسى بفعلته واعتذر عنها بأنَّها كانت قبل أن يَصطَفِيه الله بحكمته ورسالته: ﴿قَالَ فَعَلۡتُهَاۤ إِذࣰا وَأَنَا۠ مِنَ ٱلضَّاۤلِّینَ ﴿٢٠﴾ فَفَرَرۡتُ مِنكُمۡ لَمَّا خِفۡتُكُمۡ فَوَهَبَ لِی رَبِّی حُكۡمࣰا وَجَعَلَنِی مِنَ ٱلۡمُرۡسَلِینَ﴾ ثم ردَّ على مِنَّة فرعون بأنَّها لا تُسوِّغ الظلمَ الذي أوقَعَه فرعونُ على بني إسرائيل حتى جعَلَهم عبيدًا له ﴿وَتِلۡكَ نِعۡمَةࣱ تَمُنُّهَا عَلَیَّ أَنۡ عَبَّدتَّ بَنِیۤ إِسۡرَ ٰ⁠ۤءِیلَ﴾.
رابعًا: انتقل فرعونُ بالحوار إلى الموضوع الأخطر والأهم: ﴿قَالَ فِرۡعَوۡنُ وَمَا رَبُّ ٱلۡعَـٰلَمِینَ﴾، فأجابه موسى عليه السلام: ﴿قَالَ رَبُّ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَیۡنَهُمَاۤۖ إِن كُنتُم مُّوقِنِینَ﴾، فالتفت فرعون إلى حاشيته مُستنكرًا ومتهكِّمًا بموسى: ﴿قَالَ لِمَنۡ حَوۡلَهُۥۤ أَلَا تَسۡتَمِعُونَ﴾، فأكَّد موسى جوابَه الأول بثقةٍ ورباطة جَأشٍ، وبما يصدم عقيدة فرعون ودعواه الكاذبة الباطلة: ﴿قَالَ رَبُّكُمۡ وَرَبُّ ءَابَاۤىِٕكُمُ ٱلۡأَوَّلِینَ﴾.
هنا حاول فرعون حرفَ مجرى الحوار بشَتمه لموسى ﴿قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ ٱلَّذِیۤ أُرۡسِلَ إِلَیۡكُمۡ لَمَجۡنُونࣱ﴾، لكن موسى لم يستَجِب لهذا الاستفزاز، وحافَظَ على الحوار في طريقه الصحيح، كأنَّه لم يسمع تلك الشَّتِيمة: ﴿قَالَ رَبُّ ٱلۡمَشۡرِقِ وَٱلۡمَغۡرِبِ وَمَا بَیۡنَهُمَاۤۖ إِن كُنتُمۡ تَعۡقِلُونَ﴾.
هنا لجأ فرعون إلى التهديد ليحسم الأمر بقوة السلطة لا بقوة الحجَّة، كعادة الفراعنة في كلِّ زمانٍ ومكانٍ ﴿قَالَ لَىِٕنِ ٱتَّخَذۡتَ إِلَـٰهًا غَیۡرِی لَأَجۡعَلَنَّكَ مِنَ ٱلۡمَسۡجُونِینَ﴾، أمَّا موسى عليه السلام فقد لجأ إلى ما عنده مِن المعجزات والآيات الباهرات التي وعده الله بها: ﴿قَالَ أَوَلَوۡ جِئۡتُكَ بِشَیۡءࣲ مُّبِینࣲ ﴿٣٠﴾ قَالَ فَأۡتِ بِهِۦۤ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّـٰدِقِینَ ﴿٣١﴾ فَأَلۡقَىٰ عَصَاهُ فَإِذَا هِیَ ثُعۡبَانࣱ مُّبِینࣱ ﴿٣٢﴾ وَنَزَعَ یَدَهُۥ فَإِذَا هِیَ بَیۡضَاۤءُ لِلنَّـٰظِرِینَ﴾.
فلمَّا رأى فرعونُ هذا الذي فوق علمه وفوق طاقته، والذي ينزع عنه رِداءَ ألوهيَّته وربوبيَّته لجأ إلى اتِّهام موسى بالسحر: ﴿قَالَ لِلۡمَلَإِ حَوۡلَهُۥۤ إِنَّ هَـٰذَا لَسَـٰحِرٌ عَلِیمࣱ ﴿٣٤﴾ یُرِیدُ أَن یُخۡرِجَكُم مِّنۡ أَرۡضِكُم بِسِحۡرِهِۦ فَمَاذَا تَأۡمُرُونَ﴾، وهنا جاء دور الحاشية والأعوان ليُثبِتُوا ولاءَهم لفرعون، وليقتَرِحُوا مُواجهةَ السحر بالسحر: ﴿قَالُوۤاْ أَرۡجِهۡ وَأَخَاهُ وَٱبۡعَثۡ فِی ٱلۡمَدَاۤىِٕنِ حَـٰشِرِینَ ﴿٣٦﴾ یَأۡتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِیمࣲ﴾ هكذا، فربُّهم المزعوم لا يقدِر على مواجهة موسى إلا بحشدٍ مِن السحر والسحرة!
خامسًا: جُمع السحرة مِن كلِّ قريةٍ ومدينةٍ، وحضَروا أمام فرعون، هو يطمع في نصرتهم، وهم يطمعون في أجره وجائزته، وقد اجتمع الناس أيضًا لأغراضٍ شتَّى، لكن الحدث بحدِّ ذاته يستَهوِي الجماهير، فكيف إذا كان هناك فرعون وحاشيته وسحرته ﴿فَجُمِعَ ٱلسَّحَرَةُ لِمِیقَـٰتِ یَوۡمࣲ مَّعۡلُومࣲ ﴿٣٨﴾ وَقِیلَ لِلنَّاسِ هَلۡ أَنتُم مُّجۡتَمِعُونَ ﴿٣٩﴾ لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ ٱلسَّحَرَةَ إِن كَانُواْ هُمُ ٱلۡغَـٰلِبِینَ﴿٤٠﴾ فَلَمَّا جَاۤءَ ٱلسَّحَرَةُ قَالُواْ لِفِرۡعَوۡنَ أَىِٕنَّ لَنَا لَأَجۡرًا إِن كُنَّا نَحۡنُ ٱلۡغَـٰلِبِینَ﴿٤١﴾ قَالَ نَعَمۡ وَإِنَّكُمۡ إِذࣰا لَّمِنَ ٱلۡمُقَرَّبِینَ﴾ إنَّه الطغيان في مواجهة الحقِّ، والسحر في مواجهة النبوَّة ﴿قَالَ لَهُم مُّوسَىٰۤ أَلۡقُواْ مَاۤ أَنتُم مُّلۡقُونَ ﴿٤٣﴾ فَأَلۡقَوۡاْ حِبَالَهُمۡ وَعِصِیَّهُمۡ وَقَالُواْ بِعِزَّةِ فِرۡعَوۡنَ إِنَّا لَنَحۡنُ ٱلۡغَـٰلِبُونَ ﴿٤٤﴾ فَأَلۡقَىٰ مُوسَىٰ عَصَاهُ فَإِذَا هِیَ تَلۡقَفُ مَا یَأۡفِكُونَ﴾ لقد بطل السحر، واكتشف السحرةُ عُمقَ الضلال الذي كانوا فيه، فخرُّوا ساجدين لله وخاضِعِين لنور الحقِّ الذي يُبشِّرُ به موسى ﴿فَأُلۡقِیَ ٱلسَّحَرَةُ سَـٰجِدِینَ ﴿٤٦﴾ قَالُوۤاْ ءَامَنَّا بِرَبِّ ٱلۡعَـٰلَمِینَ ﴿٤٧﴾ رَبِّ مُوسَىٰ وَهَـٰرُونَ﴾.
سادسًا: هنا انتقل المشهد كلُّه إلى مُواجهةٍ أخرى؛ مواجهة بين فرعون وبين سحرته الذين جمَعَهم لنصرته ﴿قَالَ ءَامَنتُمۡ لَهُۥ قَبۡلَ أَنۡ ءَاذَنَ لَكُمۡۖ إِنَّهُۥ لَكَبِیرُكُمُ ٱلَّذِی عَلَّمَكُمُ ٱلسِّحۡرَ فَلَسَوۡفَ تَعۡلَمُونَۚ لَأُقَطِّعَنَّ أَیۡدِیَكُمۡ وَأَرۡجُلَكُم مِّنۡ خِلَـٰفࣲ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمۡ أَجۡمَعِینَ﴾ إنَّه الطغيان الذي ليس له حدٌّ، لكن حلاوة الإيمان في قلوب هؤلاء السحرة بعد أن ذاقُوها منذ لحظات كانت أقوى مِن فرعون وتهديداته ﴿قَالُواْ لَا ضَیۡرَۖ إِنَّـاۤ إِلَىٰ رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ ﴿٥٠﴾ إِنَّا نَطۡمَعُ أَن یَغۡفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَـٰیَـٰنَاۤ أَن كُنَّاۤ أَوَّلَ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ﴾.
سابعًا: لم يُشِر القرآن إلى موقف فرعون مِن موسى نفسه بعد هذه المواجهة الصاخِبَة التي أربَكَت فرعون، وأذلَّت كبرياءه.
والظاهر أنَّ فرعون اكتفى بمعاقبة السحرة ولم يجرؤ على التعرُّض لموسى بعد أن رأى مِنه ما رأى، لكنَّه استدرج فيما بعد لمواجهة أوْدَت به وبمَن معه؛ حيث أمر الله موسى بأن يقودَ بنفسه عمليةَ الخروج الكبرى؛ خروج بني إسرائيل من أرض مصر.
فلما علِمَ فرعون بذلك جنَّد جُنده، وجيَّش جيشَه وتبِعَهم، فأغرقه الله وأنجَى موسى وهارون ومَن كان معهما مِن بني إسرائيل ﴿۞ وَأَوۡحَیۡنَاۤ إِلَىٰ مُوسَىٰۤ أَنۡ أَسۡرِ بِعِبَادِیۤ إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ ﴿٥٢﴾ فَأَرۡسَلَ فِرۡعَوۡنُ فِی ٱلۡمَدَاۤىِٕنِ حَـٰشِرِینَ﴿٥٣﴾ إِنَّ هَـٰۤـؤُلَاۤءِ لَشِرۡذِمَةࣱ قَلِیلُونَ﴿٥٤﴾ وَإِنَّهُمۡ لَنَا لَغَاۤىِٕظُونَ ﴿٥٥﴾ وَإِنَّا لَجَمِیعٌ حَـٰذِرُونَ ﴿٥٦﴾ فَأَخۡرَجۡنَـٰهُم مِّن جَنَّـٰتࣲ وَعُیُونࣲ﴿٥٧﴾ وَكُنُوزࣲ وَمَقَامࣲ كَرِیمࣲ ﴿٥٨﴾ كَذَ ٰ⁠لِكَۖ وَأَوۡرَثۡنَـٰهَا بَنِیۤ إِسۡرَ ٰ⁠ۤءِیلَ ﴿٥٩﴾ فَأَتۡبَعُوهُم مُّشۡرِقِینَ ﴿٦٠﴾ فَلَمَّا تَرَ ٰ⁠ۤءَا ٱلۡجَمۡعَانِ قَالَ أَصۡحَـٰبُ مُوسَىٰۤ إِنَّا لَمُدۡرَكُونَ ﴿٦١﴾ قَالَ كَلَّاۤۖ إِنَّ مَعِیَ رَبِّی سَیَهۡدِینِ ﴿٦٢﴾ فَأَوۡحَیۡنَاۤ إِلَىٰ مُوسَىٰۤ أَنِ ٱضۡرِب بِّعَصَاكَ ٱلۡبَحۡرَۖ فَٱنفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرۡقࣲ كَٱلطَّوۡدِ ٱلۡعَظِیمِ ﴿٦٣﴾ وَأَزۡلَفۡنَا ثَمَّ ٱلۡـَٔاخَرِینَ ﴿٦٤﴾ وَأَنجَیۡنَا مُوسَىٰ وَمَن مَّعَهُۥۤ أَجۡمَعِینَ﴿٦٥﴾ ثُمَّ أَغۡرَقۡنَا ٱلۡـَٔاخَرِینَ ﴿٦٦﴾ إِنَّ فِی ذَ ٰ⁠لِكَ لَـَٔایَةࣰۖ وَمَا كَانَ أَكۡثَرُهُم مُّؤۡمِنِینَ ﴿٦٧﴾ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ ٱلۡعَزِیزُ ٱلرَّحِیمُ﴾.


﴿أَنِ ٱئۡتِ ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّـٰلِمِینَ﴾ فيه أنَّ الحقَّ هو الذي يأتي على الباطل ليُغيِّرَه، فإن قصَّر أهلُ الحقِّ في هذا دهَمَهم الباطلُ وأذلَّهم.
﴿وَیَضِیقُ صَدۡرِی وَلَا یَنطَلِقُ لِسَانِی﴾ شرطان في الداعية الناجح: سعة الصدر، وطلاقة اللسان؛ فإنَّ ضَيِّقَ الصدرِ يغلِب عليه الغضب، وانسداد الأفق، ومُنغلِقُ اللسان ينقُصُه البيان، فيغلِبُه خصمه ولو كان الحقُّ معه.
﴿قَالَ كَلَّاۖ فَٱذۡهَبَا بِـَٔایَـٰتِنَاۤۖ إِنَّا مَعَكُم مُّسۡتَمِعُونَ﴾ فيه ثلاثة تطمِينات؛ (كلا) المُتضمِّنة هنا نفي الخوف الذي أبداه موسى من ضيق الصدر، وانغِلاق اللسان، ثم مِن بطش فرعون وقومه، وتأييدهما بالآيات والمعجزات، والمعيَّة الإلهية المصاحبة لهما عليهما السلام.
﴿إِنَّا رَسُولُ رَبِّ ٱلۡعَـٰلَمِینَ﴾ أفرد الوصف لهما بإشارة إلى أن رسالتهما واحدة.
﴿أَنۡ أَرۡسِلۡ مَعَنَا بَنِیۤ إِسۡرَ ٰ⁠ۤءِیلَ﴾ للعودة بهم مِن حيث جاء آباؤهم؛ يعقوب وأولاده عليهم السلام.
﴿وَفَعَلۡتَ فَعۡلَتَكَ﴾ بقتل المصري الذي كان مِن قوم فرعون.
﴿وَأَنَا۠ مِنَ ٱلضَّاۤلِّینَ﴾ لأن تلك الفعلة كانت قبل النبوَّة، وفيه أنَّ الداعية ينبغي أن يعترِفَ بخطئه مهما كان، وألَّا ينشغل بالدفاع عن نفسه كثيرًا، فيتحول الحوار من مسار الدعوة والإصلاح إلى حالةٍ من المماحكات الشخصية، مع أنَّ موسى عليه السلام كان قادرًا على تسويغ فعله بأنه كان دفاعًا عن المستضعفين والمظلومين، لكن هذا يحرِف الحوار بعيدًا عن مساره وغايته.
﴿وَتِلۡكَ نِعۡمَةࣱ تَمُنُّهَا عَلَیَّ أَنۡ عَبَّدتَّ بَنِیۤ إِسۡرَ ٰ⁠ۤءِیلَ﴾ كأنَّه يقول له: كيف تمُنُّ عليَّ بسنوات التربية تلك، وأنت تُعذِّب قومي وتتخذهم عبيدًا؟!
﴿أَلَا تَسۡتَمِعُونَ﴾ على سبيل التهكُّم والاستخفاف؛ ولذلك قال بعدها: ﴿إِنَّ رَسُولَكُمُ ٱلَّذِیۤ أُرۡسِلَ إِلَیۡكُمۡ لَمَجۡنُونࣱ﴾ ويلحظ هنا أن موسى عليه السلام كان يمضِي في بيان الحقِّ الذي معه ولا يلتفت لهذا التهكُّم وهذا السباب، وكأنه لم يسمعه.
﴿وَنَزَعَ یَدَهُۥ فَإِذَا هِیَ بَیۡضَاۤءُ لِلنَّـٰظِرِینَ﴾ أخرج يده من جيبه فإذا بها بيضاء من غير سوء.
﴿یُرِیدُ أَن یُخۡرِجَكُم مِّنۡ أَرۡضِكُم﴾ تهمةٌ باطلةٌ؛ لأنَّ موسى كان يطلب الخروج بقومه من أرض مصر كلِّها.
﴿قَالُوۤاْ أَرۡجِهۡ﴾ أي: أخِّره ريثما يجتمع السحرة.
﴿وَٱبۡعَثۡ فِی ٱلۡمَدَاۤىِٕنِ﴾ المدن والقرى والنواحي التي يعيش فيها السحرة.
﴿فَلَمَّا جَاۤءَ ٱلسَّحَرَةُ قَالُواْ لِفِرۡعَوۡنَ أَىِٕنَّ لَنَا لَأَجۡرًا إِن كُنَّا نَحۡنُ ٱلۡغَـٰلِبِینَ﴾ إنَّهم لا يشترطون على فرعون، فهم دون ذلك، لكنَّه إظهارٌ لتمكُّنهم، ورغبة بإظهار طابعٍ من الاحتفال على هذه المبارزة.
﴿تَلۡقَفُ مَا یَأۡفِكُونَ﴾ تبتلع ما صنعوه من الخداع والكذب، وفيه أنَّ السِّحْرَ لم تكن له حقيقة، ولم تتغيَّر به الأشياء، يؤكِّد هذا قوله تعالى في موضعٍ آخر: ﴿یُخَیَّلُ إِلَیۡهِ مِن سِحۡرِهِمۡ أَنَّهَا تَسۡعَىٰ﴾ [طه: 66]، وقوله: ﴿سَحَرُوۤاْ أَعۡیُنَ ٱلنَّاسِ﴾ [الأعراف: 116].
﴿قَالَ ءَامَنتُمۡ لَهُۥ قَبۡلَ أَنۡ ءَاذَنَ لَكُمۡۖ﴾ يستنكِرُ عليهم الإيمان بالآيات التي رأوها مع موسى بل أن يأخذوا الإذنَ منه، وهذا دأبُ الفراعنة في كلِّ زمانٍ ومكان، يستعبِدُون الناس حتى في أفكارهم ومُعتقداتهم.
﴿لَأُقَطِّعَنَّ أَیۡدِیَكُمۡ وَأَرۡجُلَكُم مِّنۡ خِلَـٰفࣲ﴾ تهديدٌ بقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى من كل ساحر آمن بموسى وهارون.
﴿قَالُواْ لَا ضَیۡرَۖ إِنَّـاۤ إِلَىٰ رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ﴾ لا ضَير أي: لا ضرر، والمقصود أنَّهم لا يخشون من هذا التهديد؛ لأنَّه ضررٌ مؤقَّتٌ وزائلٌ في مقابل نعيمٍ دائمٍ ينتظرهم بعد موتهم.
﴿أَنۡ أَسۡرِ بِعِبَادِیۤ إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ﴾ أي: امشِ بهم في الليل؛ فإن فرعون وجنده سيتبعونكم، والمقصود أن يخرج موسى ببني إسرائيل ليلًا حتى يصِلُوا البحرَ قبل أن يلحَقَ بهم فرعون.
﴿إِنَّ هَـٰۤـؤُلَاۤءِ لَشِرۡذِمَةࣱ قَلِیلُونَ﴾ الشِّرذمة: المجموعة القليلة من الناس، وقليلون تأكيد لمعنى القِلَّة.
﴿وَإِنَّهُمۡ لَنَا لَغَاۤىِٕظُونَ﴾ أي: قد أغضبونا بخروجهم واتِّباعهم لموسى وأخيه من دون إذنٍ منا.
﴿وَإِنَّا لَجَمِیعٌ حَـٰذِرُونَ﴾ يعني: أنَّه وملأه وجنده في حالةٍ من اليقظة والحذر، كأنَّه يُطمئِن قومه.
﴿فَأَتۡبَعُوهُم مُّشۡرِقِینَ﴾ أي: تعقَّبُوهم مُتوجِّهين جهةَ الشرق، ولا يبعُد أيضًا أنه قصدَ الوقت، وهو وقت الشروق، بمعنى أن بني إسرائيل ساروا ليلًا، فخرج فرعون وراءهم مع شروق الشمس.
﴿فَأَخۡرَجۡنَـٰهُم مِّن جَنَّـٰتࣲ وَعُیُونࣲ ﴿٥٧﴾ وَكُنُوزࣲ وَمَقَامࣲ كَرِیمࣲ﴾ أي: أخرجنا فرعون وجنده، من مُلكهم وسلطانهم، وأموالهم وبساتينهم.
﴿كَذَ ٰ⁠لِكَۖ وَأَوۡرَثۡنَـٰهَا بَنِیۤ إِسۡرَ ٰ⁠ۤءِیلَ﴾ أي: أورثنا بني إسرائيل نعيمًا وملكًا بعد خروجهم، ولا يمكن أن يكون هذا عين ما كان تحت فرعون وقومه؛ لأنَّ بني إسرائيل لم يرجعوا إلى مصر بعد خروجهم، فيكون الضمير في ﴿وَأَوۡرَثۡنَـٰهَا﴾ يعود إلى جنس تلك النعم لا إلى أعيانها، إلا إذا كان المقصود به المال الذي كان مع فرعون وجيشه، والذي ربما سلَبَه بنو إسرائيل منهم بعد هلاكهم، وذلك قوله تعالى: ﴿حُمِّلۡنَاۤ أَوۡزَارࣰا مِّن زِینَةِ ٱلۡقَوۡمِ﴾ [طه: 87]، فيكون من باب إطلاق الكلِّ وإرادة الجزء، والله أعلم.
﴿فَلَمَّا تَرَ ٰ⁠ۤءَا ٱلۡجَمۡعَانِ﴾ جمع موسى عليه السلام، وهم بنو إسرائيل، وجمع فرعون.
﴿قَالَ أَصۡحَـٰبُ مُوسَىٰۤ إِنَّا لَمُدۡرَكُونَ ﴿٦١﴾ قَالَ كَلَّاۤۖ إِنَّ مَعِیَ رَبِّی سَیَهۡدِینِ﴾ استحضر موسى في هذا الموقف العصيب - الذي ارتجَفَت فيه قلوبُ أصحابه - معيَّةَ الله ووعده الأكيد له.
وهذا الوعدُ ليسَ سنَّة ثابِتة في كلِّ صراعٍ، كما يُردِّد بعضُ الوُعَّاظ، وبعَضُ القيادات الإسلامية المعاصرة؛ فموازينُ القوى حاكمة، وسُنن الله في الكون لا تتخلَّف، وخوارق العادات ليست أصلًا في هذه الحياة، لكننا نرجُو الله وندعوه، ونعدُّ العُدَّة الكافِية، ونتوكَّل على الله دون أن نتألَّى عليه ـ، ولله أن يبتَلِي عبادَه بالنصر أو الهزيمة وفْق حكمته تعالى، وإرادته المطلقة التي لا تخضع لرغباتنا وتصوّراتنا، والله أعلم.
﴿فَٱنفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرۡقࣲ كَٱلطَّوۡدِ ٱلۡعَظِیمِ﴾ أي: انحسر ماءُ البحر إلى الجانبَين، فكان الماءُ في كلِّ جانب مثل الجبل العظيم، وهذه معجزة لموسى عليه السلام لا يُقاس عليها، والله يفعل ما يريد.
﴿وَأَزۡلَفۡنَا ثَمَّ ٱلۡـَٔاخَرِینَ﴾ أي: استدرجنا فرعون وجنده، فدخلوا خلف بني إسرائيل فيما بين الطودَين، ومعنى أزلفنا أي: قرَّبناهم من ذلك المكان.
﴿إِنَّ فِی ذَ ٰ⁠لِكَ لَـَٔایَةࣰۖ وَمَا كَانَ أَكۡثَرُهُم مُّؤۡمِنِینَ﴾ أي: هذا الذي حصل لفرعون فيه العبرة الكافية لمن يبحث عن الحق، لكن الناس - ومنهم أهل مكة - لا يتَّعِظُون ولا يعتَبِرُون، وقد تكرَّرَت هذه الآية بعد كلِّ قصَّةٍ من القصص الواردة في هذه السورة.
﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ ٱلۡعَزِیزُ ٱلرَّحِیمُ﴾ فبعزَّته أغرق فرعون وجنده، وبرحمته أنجَى موسى وجمعَه.