تستهلُّ سورةُ
الشعراء بومَضَاتٍ سريعةٍ عن تلك الدعوة المباركة التي بدأ بها نبيُّنا الكريم
ﷺ في مكَّة المكرَّمة، وما كان يعمُر قلبه الشريف من حِرصٍ على الهداية ومحبَّة الخير والصلاح لكل الناس، ثم تختتم السورة بهذه الدعوة أيضًا، ولكن بشيءٍ مِن التفصيل والتوسُّع، مع توجيهاتٍ دعويَّة وتربويَّة له
ﷺ، ولتلك الثُّلَّة المؤمنة التي اختارَها الله لنبيِّه في تلك المرحلة التأسيسيَّة التي شكَّلَت هويَّة الأمة، وتأريخها، وجغرافيتها.
وبين الاستهلال والخِتام يعرِضُ القرآن لسلسلةٍ مِن التجارب الدعوية التي قادَها النبيُّون السابِقُون على نبيِّنا وعليهم الصلاة والسلام، في تأكيدٍ مُستمرٍّ أنَّ هذه الدعوات إنما هي دعوةٌ واحدةٌ، وأنَّ هذه الرسالات إنما هي رسالةٌ واحدةٌ.
أما الوَمَضاتُ السريعةُ التي جاءت في فواتِحِ هذه السورة فهي كالآتي:
أولًا: تأكيد أن هذه الدعوة تستَنِدُ إلى مصدرٍ موثوقٍ وواضِحٍ لا لبسَ فيه ولا غُموض
﴿تِلۡكَ ءَایَـٰتُ ٱلۡكِتَـٰبِ ٱلۡمُبِینِ﴾.
ثانيًا: أنَّ النبيَّ الذي يحمِلُ هذه الدعوة قد بلَغَ في الحرصِ والجدِّ مبلَغًا لا يُدانِيهِ فيه أحدٌ، حتى كادَ أن يُهلِكَ نفسَه مِن الحزن حينما يرى قومه ينأَون بأنفسهم عن هذا الخير الذي يحمِلُه إليهم
﴿لَعَلَّكَ بَـٰخِعࣱ نَّفۡسَكَ أَلَّا یَكُونُواْ مُؤۡمِنِینَ﴾.
ثالثًا: تأكيد أنَّ الله قادِرٌ على أن يُنزِّل مِن الآيات ما يُجبِرُ تلك الرؤوس المعانِدة على الخضوع لها
﴿إِن نَّشَأۡ نُنَزِّلۡ عَلَیۡهِم مِّنَ ٱلسَّمَاۤءِ ءَایَةࣰ فَظَلَّتۡ أَعۡنَـٰقُهُمۡ لَهَا خَـٰضِعِینَ﴾ لكن هذا لا يُناسب فلسفة الاختبار والابتلاء التي أقام الله عليها هذا الخلق، والتي تستلزم الحرية في اتخاذ القرار، وعدم الجبر أو الإكراه.
رابعًا: أنَّ المشركين قد أغلَقوا منافِذَ المعرفة فيهم عن كلِّ آيات الله التي تنزِلُ تِباعًا لإرشادهم وتعليمهم وتوجيههم
﴿وَمَا یَأۡتِیهِم مِّن ذِكۡرࣲ مِّنَ ٱلرَّحۡمَـٰنِ مُحۡدَثٍ إِلَّا كَانُواْ عَنۡهُ مُعۡرِضِینَ﴾.
خامسًا: أنهم قد أعمَوا أبصارَهم عن دلائل الحقِّ المبثُوثة في هذا الكون، والتي تشهد كلُّها بوحدانية الخالق تبارك وتعالى
﴿أَوَلَمۡ یَرَوۡاْ إِلَى ٱلۡأَرۡضِ كَمۡ أَنۢبَتۡنَا فِیهَا مِن كُلِّ زَوۡجࣲ كَرِیمٍ ﴿٧﴾ إِنَّ فِی ذَ ٰلِكَ لَـَٔایَةࣰۖ وَمَا كَانَ أَكۡثَرُهُم مُّؤۡمِنِینَ﴾.
سادسًا: بيان عاقبة التكذيب والعناد لعلَّهم يتذكَّرون ويرجِعُون
﴿فَقَدۡ كَذَّبُواْ فَسَیَأۡتِیهِمۡ أَنۢبَـٰۤؤُاْ مَا كَانُواْ بِهِۦ یَسۡتَهۡزِءُونَ﴾.
سابعًا: أنَّ الله الذي هو ربُّ هذه الدعوة ومصدرها وغايتها الكبرى إنما هو العزيز الرحيم
﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ ٱلۡعَزِیزُ ٱلرَّحِیمُ﴾، وقد تكرَّر هذا الوصف وبهذا اللفظ تسع مرَّاتٍ في هذه السورة، في إشارةٍ واضحةٍ أنَّ هذه الدعوة كلَّها وفي كلِّ مراحلها تجمع بين هاتَين الصفتَين المُتلازمتَين: العزَّة والرحمة؛ العزَّة بالحقِّ، والرحمة بالخلق، وأنَّ الداعية أيضًا الموصُول بالله، والمتخلِّق بموجِبات أسمائه تعالى هو عزيزٌ لا يُذِلُّ نفسَه لغير خالقه، كما أنه رحيمٌ يسعَى لنشر الخير والرحمة بين الناس مهما اختلف معهم أو اختلفوا معه.