سورة الشعراء تفسير مجالس النور الآية 157

فَعَقَرُوهَا فَأَصۡبَحُواْ نَـٰدِمِینَ ﴿١٥٧﴾

تفسير مجالس النور سورة الشعراء

المجلس الثالث والستون بعد المائة: هود وصالح


من الآية (123- 159)


بعثَ الله هودًا إلى قبيلة عادٍ، ثم بعثَ صالحًا إلى قبيلة ثمود، وكلتاهما مِن القبائل المشركة التي يغلب عليها طبع البداوة والجفاء، والقرآن يَذكُرُهما في الغالب مُقترنين ومُتعاقبين، فيذكرُ هودًا أوَّلًا، ثم يُعقِّب بصالح، وكأنَّهما قصة واحدة؛ لما بينهما مِن التشابُه، كما سنرى في هذه النقاط:
أولًا: افتتح القرآن قصة هودٍ عليه السلام بقوله: ﴿كَذَّبَتۡ عَادٌ ٱلۡمُرۡسَلِینَ ﴿١٢٣﴾ إِذۡ قَالَ لَهُمۡ أَخُوهُمۡ هُودٌ أَلَا تَـتَّـقُونَ ﴿١٢٤﴾ إِنِّی لَكُمۡ رَسُولٌ أَمِینࣱ ﴿١٢٥﴾ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِیعُونِ﴾، ثم افتتح قصة صالحٍ بقوله: ﴿كَذَّبَتۡ ثَمُودُ ٱلۡمُرۡسَلِینَ ﴿١٤١﴾ إِذۡ قَالَ لَهُمۡ أَخُوهُمۡ صَـٰلِحٌ أَلَا تَـتَّـقُونَ ﴿١٤٢﴾ إِنِّی لَكُمۡ رَسُولٌ أَمِینࣱ ﴿١٤٣﴾ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِیعُونِ﴾ ولولا اختلاف أسماء الأعلام لما فرَّقنا بين القصة الأولى، والقصة الثانية.
ثانيًا: كلاهما أكَّد نزاهةَ اليد، وأنَّ هذه الدعوة دعوة ربَّانيَّة ليس فيها مِن مطمع سوى رضا الله والجنة، فقد قال هودٌ لقومِه: ﴿وَمَاۤ أَسۡـَٔلُكُمۡ عَلَیۡهِ مِنۡ أَجۡرٍۖ إِنۡ أَجۡرِیَ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّ ٱلۡعَـٰلَمِینَ﴾، وهكذا قال صالح لقومه: ﴿وَمَاۤ أَسۡـَٔلُكُمۡ عَلَیۡهِ مِنۡ أَجۡرٍۖ إِنۡ أَجۡرِیَ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّ ٱلۡعَـٰلَمِینَ﴾.
ثالثًا: ثم حذَّر هودٌ قومه من التجبُّرِ والظلمِ، والإسرافِ في التعالي والتَّرف: ﴿أَتَبۡنُونَ بِكُلِّ رِیعٍ ءَایَةࣰ تَعۡبَثُونَ ﴿١٢٨﴾ وَتَـتَّـخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمۡ تَخۡلُدُونَ ﴿١٢٩﴾ وَإِذَا بَطَشۡتُم بَطَشۡتُمۡ جَبَّارِینَ ﴿١٣٠﴾ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِیعُونِ ﴿١٣١﴾ وَٱتَّقُواْ ٱلَّذِیۤ أَمَدَّكُم بِمَا تَعۡلَمُونَ ﴿١٣٢﴾ أَمَدَّكُم بِأَنۡعَـٰمࣲ وَبَنِینَ ﴿١٣٣﴾ وَجَنَّـٰتࣲ وَعُیُونٍ﴾، وبما يَقْرُبُ من هذا أيضًا حذَّر صالح قومه: ﴿أَتُتۡرَكُونَ فِی مَا هَـٰهُنَاۤ ءَامِنِینَ ﴿١٤٦﴾ فِی جَنَّـٰتࣲ وَعُیُونࣲ ﴿١٤٧﴾ وَزُرُوعࣲ وَنَخۡلࣲ طَلۡعُهَا هَضِیمࣱ ﴿١٤٨﴾ وَتَنۡحِتُونَ مِنَ ٱلۡجِبَالِ بُیُوتࣰا فَـٰرِهِینَ ﴿١٤٩﴾ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِیعُونِ ﴿١٥٠﴾ وَلَا تُطِیعُوۤاْ أَمۡرَ ٱلۡمُسۡرِفِینَ﴿١٥١﴾ ٱلَّذِینَ یُفۡسِدُونَ فِی ٱلۡأَرۡضِ وَلَا یُصۡلِحُونَ﴾، ومن مجموع هذه الآيات يتَّضِح أنَّ القومَين كانوا على مستوى عالٍ مِن الرفاهية والنعيم.
رابعًا: وقد ردَّت عادٌ على نبيِّها بمنطق الاستِعلاء الفارغ والتكبُّر: ﴿قَالُواْ سَوَاۤءٌ عَلَیۡنَاۤ أَوَعَظۡتَ أَمۡ لَمۡ تَكُن مِّنَ ٱلۡوَ ٰ⁠عِظِینَ ﴿١٣٦﴾ إِنۡ هَـٰذَاۤ إِلَّا خُلُقُ ٱلۡأَوَّلِینَ ﴿١٣٧﴾ وَمَا نَحۡنُ بِمُعَذَّبِینَ﴾، وبما يَقْرُبُ من هذا ردَّت ثمود: ﴿قَالُوۤاْ إِنَّمَاۤ أَنتَ مِنَ ٱلۡمُسَحَّرِینَ ﴿١٥٣﴾ مَاۤ أَنتَ إِلَّا بَشَرࣱ مِّثۡلُنَا﴾.
خامسًا: اختلَفَت ثمودُ عن عاد بقصة الناقة، وهي الآية التي طلَبَتْها ثمود من نبيِّهم ﴿فَأۡتِ بِـَٔایَةٍ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّـٰدِقِینَ ﴿١٥٤﴾ قَالَ هَـٰذِهِۦ نَاقَةࣱ لَّهَا شِرۡبࣱ وَلَكُمۡ شِرۡبُ یَوۡمࣲ مَّعۡلُومࣲ ﴿١٥٥﴾ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوۤءࣲ فَیَأۡخُذَكُمۡ عَذَابُ یَوۡمٍ عَظِیمࣲ﴾، لكنَّهم ظلموا بها وكفروا ﴿فَعَقَرُوهَا فَأَصۡبَحُواْ نَـٰدِمِینَ﴾.
سادسًا: ثم التقيا بالعاقبة البئيسة؛ حيث حلَّ فيهما عذاب الله بعد كفرِهما وطغيانِهما، أما عاد فيقولُ الله فيهم: ﴿فَكَذَّبُوهُ فَأَهۡلَكۡنَـٰهُمۡۚ إِنَّ فِی ذَ ٰ⁠لِكَ لَـَٔایَةࣰۖ وَمَا كَانَ أَكۡثَرُهُم مُّؤۡمِنِینَ ﴿١٣٩﴾ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ ٱلۡعَزِیزُ ٱلرَّحِیمُ﴾، وأما ثمود: ﴿فَأَخَذَهُمُ ٱلۡعَذَابُۚ إِنَّ فِی ذَ ٰ⁠لِكَ لَـَٔایَةࣰۖ وَمَا كَانَ أَكۡثَرُهُم مُّؤۡمِنِینَ ﴿١٥٨﴾ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ ٱلۡعَزِیزُ ٱلرَّحِیمُ﴾.


﴿أَتَبۡنُونَ بِكُلِّ رِیعٍ ءَایَةࣰ تَعۡبَثُونَ﴾ أنكر عليهم الانشغال بالدنيا، والتباهي بالأبنية الشامخة فوق كلِّ مكانٍ مرتفعٍ إظهارًا للقوة والمنَعَة، مع قسوة القلب، والغفلة عن طريق الآخرة.
والعُمران بأصله مشروعٌ، لكنَّه لمَّا كان رياءً ومباهاةً وتعاليًا على الحقِّ والخلق، سمَّاه عبَثًا، والرِّيعُ: المكان المرتفع، و﴿ءَایَةࣰ﴾ هنا: البناءُ الشاخِصُ.
﴿وَتَـتَّـخِذُونَ مَصَانِعَ﴾ بما يُناسِبُ ذلك العصر من أدوات الري، والزراعة، وتجميع المياه، وكذا السلاح وأدوات القتال، وربما كان عندهم غير ذلك مما لم يصِلنا عنه خبر، والله أعلم.
﴿إِنۡ هَـٰذَاۤ إِلَّا خُلُقُ ٱلۡأَوَّلِینَ﴾ يحتمل أنَّهم يُشيرون إلى مواعظ نبيِّهم لهم، وأنها من موروث الأقدمين وأساطيرهم، وهو تعليلٌ لرفض دعوته ورسالته، ويحتمل أنهم يُشيرون إلى ما عندهم مِن دينٍ وثنيٍّ وعاداتٍ باطلةٍ، بمعنى أن هذا من موروث آبائِهم وأجدادِهم، فهم مُتمسِّكون به ولا يرضون عنه بديلًا، وهو تعليلٌ أيضًا لرفض دعوته، فتكون النتيجة واحدة، والله أعلم.
﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ ٱلۡعَزِیزُ ٱلرَّحِیمُ﴾ فبعزَّته أهلك عادًا، وبرحمته نجَّى هودًا.
﴿أَتُتۡرَكُونَ فِی مَا هَـٰهُنَاۤ ءَامِنِینَ﴾ أتظنُّون أنكم مُخلَّدون في هذا النعيم، وأنكم بمأمنٍ مِن الموت والعذاب؟
﴿وَنَخۡلࣲ طَلۡعُهَا هَضِیمࣱ﴾ الطَّلْع: عِذْق النخلة الذي يحمل رُطَبِها، والهَضِيمُ: الرُّطَبُ اليانع الجاهز للأكل.
﴿وَتَنۡحِتُونَ مِنَ ٱلۡجِبَالِ بُیُوتࣰا فَـٰرِهِینَ﴾ تنحِتون بيوتًا في الجبال بمهارةٍ وإتقانٍ، ترفًا ومباهاةً.
﴿وَلَا تُطِیعُوۤاْ أَمۡرَ ٱلۡمُسۡرِفِینَ﴾ والإسراف هنا: الإفراط في الكفر والطغيان، وتبذير المال.
﴿إِنَّمَاۤ أَنتَ مِنَ ٱلۡمُسَحَّرِینَ﴾ أي: المسحُورين، وفي المُسحَّرين مبالغةٌ وزيادةٌ في المعنى.
﴿فَعَقَرُوهَا﴾ تعدَّوا عليها وذبَحوها.
﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ ٱلۡعَزِیزُ ٱلرَّحِیمُ﴾ فبعزَّته أهلك ثمود، وبرحمته نجَّى صالحًا.