في هذه الآيات يعرِض القرآن مواقف محدَّدة من دعوة النبيَّين الكريمَين: سيدنا إبراهيم، وسيدنا
نوح عليهما السلام، وربما بدأ بقصة إبراهيم؛ لأنَّها الأقرب إلى قصة موسى وهارون التي تقدَّمَت معنا في المجلس السابق، مع التنبُّه إلى أنَّ القرآن لا يعتمد التسلسُل التاريخي في سرد
القصص والوقائع، بل يعتمد النسَق المنهجي العلمي، وبما يُعزِّز المعاني التي يهدِف القرآن إلى تأكيدها وتجلِيَتها، فلنتدبَّر مِن سيرة سيدنا إبراهيم
عليه السلام هذه المواقف الدعويَّة:
أولًا: بدأ إبراهيم
عليه السلام بطرح أسئلته العقليَّة التي تمسُّ أصل المعتقدات الوثنيَّة التي كانت متغلغلة في مجتمعه آنذاك
﴿وَٱتۡلُ عَلَیۡهِمۡ نَبَأَ إِبۡرَ ٰهِیمَ ﴿٦٩﴾ إِذۡ قَالَ لِأَبِیهِ وَقَوۡمِهِۦ مَا تَعۡبُدُونَ ﴿٧٠﴾ قَالُواْ نَعۡبُدُ أَصۡنَامࣰا فَنَظَلُّ لَهَا عَـٰكِفِینَ ﴿٧١﴾ قَالَ هَلۡ یَسۡمَعُونَكُمۡ إِذۡ تَدۡعُونَ ﴿٧٢﴾ أَوۡ یَنفَعُونَكُمۡ أَوۡ یَضُرُّونَ﴾.
إنه يسألهم عن هذه الأشياء التي يعبدونها، وما إذا كانت تسمع دعاءهم إذ يدعونها، أو أنها قادرة على أن تنفعهم أو تضرهم، فالإله الذي لا يقدر على هذه الأشياء ليس جديرًا بالعبادة.
ثانيًا: لم تكن لدى أبيه وقومه أجوبة على تساؤلاته تلك سوى قولهم:
﴿بَلۡ وَجَدۡنَاۤ ءَابَاۤءَنَا كَذَ ٰلِكَ یَفۡعَلُونَ﴾ إنه التقليد الأعمى والأصم، والتمسُّك بالموروث ولو كان عن غير بيِّنة ولا تفكير، وهي عادةٌ مِن عادات البشر في كلِّ جيلٍ، وهي سببٌ مِن أسباب جمودهم، وضلال مَن ضلَّ منهم.
ثالثًا: لما سمع إبراهيم جوابَهم هذا بادر بإنكاره وإعلان البراءة من هذه الآلهة الجامدة التي لا ترى، ولا تسمعُ، ولا تضُرُّ، ولا تنفعُ، مُعلنًا في الوقت ذاته تمسُّكه بعبادة الله الواحد الأحد خالق الخلق، ورازقهم، ومُحيِيهم، ومُميتهم،
غافر الذنب، وقابل التوب ـ:
﴿قَالَ أَفَرَءَیۡتُم مَّا كُنتُمۡ تَعۡبُدُونَ ﴿٧٥﴾ أَنتُمۡ وَءَابَاۤؤُكُمُ ٱلۡأَقۡدَمُونَ ﴿٧٦﴾ فَإِنَّهُمۡ عَدُوࣱّ لِّیۤ إِلَّا رَبَّ ٱلۡعَـٰلَمِینَ ﴿٧٧﴾ ٱلَّذِی خَلَقَنِی فَهُوَ یَهۡدِینِ ﴿٧٨﴾ وَٱلَّذِی هُوَ یُطۡعِمُنِی وَیَسۡقِینِ ﴿٧٩﴾ وَإِذَا مَرِضۡتُ فَهُوَ یَشۡفِینِ﴿٨٠﴾ وَٱلَّذِی یُمِیتُنِی ثُمَّ یُحۡیِینِ ﴿٨١﴾ وَٱلَّذِیۤ أَطۡمَعُ أَن یَغۡفِرَ لِی خَطِیۤـَٔتِی یَوۡمَ ٱلدِّینِ﴾.
رابعًا: لجأ إبراهيم
عليه السلام إلى ربِّه يدعوه ويتضرَّع إليه، ويسأله الحكمة والصلاح وقول الصدق الذي يخلِّد ذكره الحسن، وسلامة القلب، ثم الجنة، ولم يَنسَ إبراهيمُ في دعائه هذا أن يدعو لأبيه بالمغفرة:
﴿رَبِّ هَبۡ لِی حُكۡمࣰا وَأَلۡحِقۡنِی بِٱلصَّـٰلِحِینَ ﴿٨٣﴾ وَٱجۡعَل لِّی لِسَانَ صِدۡقࣲ فِی ٱلۡـَٔاخِرِینَ ﴿٨٤﴾ وَٱجۡعَلۡنِی مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ ٱلنَّعِیمِ ﴿٨٥﴾ وَٱغۡفِرۡ لِأَبِیۤ إِنَّهُۥ كَانَ مِنَ ٱلضَّاۤلِّینَ ﴿٨٦﴾ وَلَا تُخۡزِنِی یَوۡمَ یُبۡعَثُونَ ﴿٨٧﴾ یَوۡمَ لَا یَنفَعُ مَالࣱ وَلَا بَنُونَ ﴿٨٨﴾ إِلَّا مَنۡ أَتَى ٱللَّهَ بِقَلۡبࣲ سَلِیمࣲ﴾.
خامسًا: يُذكِّرُ القرآن في ختام هذه القصَّة بذلك اليوم الذي ينتظر الخلائق أجمعين، ليروا أعمالهم وما قدموه لأنفسهم في هذه الدار، مُحذِّرًا مِن تلك العاقبة البئيسة التي تنتظر أولئك المشركين الذين يُصِرُّون على عبادة أصنامٍ لا تعي، ولا تنفعُ، ولا تضرُّ
﴿وَأُزۡلِفَتِ ٱلۡجَنَّةُ لِلۡمُتَّقِینَ ﴿٩٠﴾ وَبُرِّزَتِ ٱلۡجَحِیمُ لِلۡغَاوِینَ ﴿٩١﴾ وَبُرِّزَتِ ٱلۡجَحِیمُ لِلۡغَاوِینَ ﴿٩٢﴾ مِن دُونِ ٱللَّهِ هَلۡ یَنصُرُونَكُمۡ أَوۡ یَنتَصِرُونَ ﴿٩٣﴾ فَكُبۡكِبُواْ فِیهَا هُمۡ وَٱلۡغَاوُۥنَ ﴿٩٤﴾ وَجُنُودُ إِبۡلِیسَ أَجۡمَعُونَ ﴿٩٥﴾ قَالُواْ وَهُمۡ فِیهَا یَخۡتَصِمُونَ ﴿٩٦﴾ تَٱللَّهِ إِن كُنَّا لَفِی ضَلَـٰلࣲ مُّبِینٍ ﴿٩٧﴾ إِذۡ نُسَوِّیكُم بِرَبِّ ٱلۡعَـٰلَمِینَ ﴿٩٨﴾ وَمَاۤ أَضَلَّنَاۤ إِلَّا ٱلۡمُجۡرِمُونَ ﴿٩٩﴾ فَمَا لَنَا مِن شَـٰفِعِینَ ﴿١٠٠﴾ وَلَا صَدِیقٍ حَمِیمࣲ ﴿١٠١﴾ فَلَوۡ أَنَّ لَنَا كَرَّةࣰ فَنَكُونَ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ ﴿١٠٢﴾ إِنَّ فِی ذَ ٰلِكَ لَـَٔایَةࣰۖ وَمَا كَانَ أَكۡثَرُهُم مُّؤۡمِنِینَ ﴿١٠٣﴾ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ ٱلۡعَزِیزُ ٱلرَّحِیمُ﴾.
هناك يعترفون بضلالهم، ولا فائدة مِن هذا الاعتراف، ويتلاومون فيما بينهم، ولا فائدة من هذا التلاوم، ويتمنَّون أن لو يعيدهم الله مرة أخرى إلى هذه الأرض، ولا فائدة مِن هذا التمنِّي، ويلتفتون لعلَّ شفيعًا يشفع لهم، أو صديقًا يتذكَّرهم، أو قريبًا يرِقُّ لهم، فلا يجِدُون غيرَ الحسرة والندامة، أعاذنا الله من ذلك.
أما مِن قصة
نوح عليه السلام، فلنقِف مع هذه المواقف:
أولًا: يتوجَّه
نوح إلى قومه ليبلغهم رسالةَ ربِّه، ويُحذِّرهم مما هم فيه مِن ضلالٍ ووثنيَّةٍ، ولكنهم يواجهونه بالعناد والتكذيب
﴿كَذَّبَتۡ قَوۡمُ نُوحٍ ٱلۡمُرۡسَلِینَ ﴿١٠٥﴾ إِذۡ قَالَ لَهُمۡ أَخُوهُمۡ نُوحٌ أَلَا تَـتَّـقُونَ ﴿١٠٦﴾ إِنِّی لَكُمۡ رَسُولٌ أَمِینࣱ ﴿١٠٧﴾ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِیعُونِ﴾.
ثانيًا: يؤكِّد نوحٌ
عليه السلام لقومه أنه لا يبتغي مِن دعوته أجرًا ماديًّا ولا معنويًّا؛ لأن دعوته دعوة ربَّانيَّة خالصة لا مَطْمَع فيها سوى رضا الله والجنة
﴿وَمَاۤ أَسۡـَٔلُكُمۡ عَلَیۡهِ مِنۡ أَجۡرٍۖ إِنۡ أَجۡرِیَ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّ ٱلۡعَـٰلَمِینَ﴾ وهذه سِمةٌ مِن سِمات الدعوة لا ينبغي أن يغفل عنها الدعاة.
ثالثًا: لم يجِد قومُه ما يعيبونه عليه إلا تبرُّمهم بمَن معه من المساكين والفقراء
﴿۞ قَالُوۤاْ أَنُؤۡمِنُ لَكَ وَٱتَّبَعَكَ ٱلۡأَرۡذَلُونَ﴾ الأرذلون بمقاييسهم الماديَّة، إنه نوعٌ من التكبُّر الطبَقِي الذي يُقَسِّمُ المجتمعات إلى شرفاء وأراذل، أو نبلاء ومنبوذين، تبعًا لما معهم من جَاهٍ ومتاعٍ، وليس على ما يملِكون مِن دينٍ وخلقٍ، أو ما يُقدِّمونه للناس مِن خيرٍ وخدمةٍ.
وقد ردَّ نوحٌ عليهم هذا التصنيف وهذا الاعتراض:
﴿قَالَ وَمَا عِلۡمِی بِمَا كَانُواْ یَعۡمَلُونَ ﴿١١٢﴾ إِنۡ حِسَابُهُمۡ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّیۖ لَوۡ تَشۡعُرُونَ ﴿١١٣﴾ وَمَاۤ أَنَا۠ بِطَارِدِ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ ﴿١١٤﴾ إِنۡ أَنَا۠ إِلَّا نَذِیرࣱ مُّبِینࣱ﴾ هكذا يتمسَّك نوحٌ بمن معه من المؤمنين، ويرفض المساومة عليهم، وهذه ثابتةٌ من ثوابت الدعوة لا ينبغي الحيْد عنها مهما كانت الضغوط والتحديات.
رابعًا: هنا ظهر الباطل على حقيقته، وانكشف بصَلَفه وظلمه وعدوانيَّته
﴿قَالُواْ لَىِٕن لَّمۡ تَنتَهِ یَـٰنُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ ٱلۡمَرۡجُومِینَ﴾.
خامسًا: لم يجِد نوحٌ بُدًّا بعد كلِّ تلك القرون المديدة من الصبر والمصابرة، والحلم الطويل إلا أن يلجأ إلى ربِّه بهذا الدعاء الممزوج بالحسرة والألم:
﴿قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوۡمِی كَذَّبُونِ ﴿١١٧﴾ قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوۡمِی كَذَّبُونِ﴾، فاستجاب الله له، وأنجاه ومَن معه من المؤمنين بعد هلاك الكافرين الظالمين
﴿فَأَنجَیۡنَـٰهُ وَمَن مَّعَهُۥ فِی ٱلۡفُلۡكِ ٱلۡمَشۡحُونِ ﴿١١٩﴾ ثُمَّ أَغۡرَقۡنَا بَعۡدُ ٱلۡبَاقِینَ ﴿١٢٠﴾ إِنَّ فِی ذَ ٰلِكَ لَـَٔایَةࣰۖ وَمَا كَانَ أَكۡثَرُهُم مُّؤۡمِنِینَ ﴿١٢١﴾ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ ٱلۡعَزِیزُ ٱلرَّحِیمُ﴾.