﴿تَنزِیلُ ٱلۡكِتَـٰبِ لَا رَیۡبَ فِیهِ﴾ لأنّه يحمل دلائل صدقِه في ذاته.
﴿لِتُنذِرَ قَوۡمࣰا مَّاۤ أَتَىٰهُم مِّن نَّذِیرࣲ مِّن قَبۡلِكَ﴾ هم قومُه
ﷺ الذين كانوا في جاهلية فليس عندهم كتاب، ولم يبعث الله إليهم نبيًّا.
وفي الآية دليلٌ على أنَّ مَن مات منهم قبل البعثة فالأصل فيه براءة الذمَّة؛ لأنَّه غير مُكلَّف
﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِینَ حَتَّىٰ نَبۡعَثَ رَسُولࣰا﴾ [الإسراء: 15].
وهنا أيضًا ملحوظة؛ فإنذار الرسول
ﷺ لقومه لا يعني أنَّ رسالته خاصة بهم، فهذا منقوضٌ بمثل قوله تعالى:
﴿وَمَاۤ أَرۡسَلۡنَـٰكَ إِلَّا رَحۡمَةࣰ لِّلۡعَـٰلَمِینَ﴾ [الأنبياء: 107].
﴿ٱللَّهُ ٱلَّذِی خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ وَمَا بَیۡنَهُمَا فِی سِتَّةِ أَیَّامࣲ﴾ هي ليست من أيامنا؛ لأنَّ يومَنا هو حصيلةُ دَوَرَان الأرض حول نفسها أمام الشمس، ولكلِّ كوكبٍ يومه، فكيف باليوم الذي كان قبل خلق السماوات والأرض؟ فذلك لا يعلَمُه إلا الله، والمقصودُ بالإخبار عن تلك الأيام إنَّما هو التقديرُ على مراحل، كما هي سُنَّةُ الخلق كلِّه.
﴿ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰ عَلَى ٱلۡعَرۡشِۖ﴾ استواءً يليقُ بعظمةِ الله وجلالِه وعلوِّه وغِناه عن جميع خلقه؛ العرش وما سِوَى العرش، وهذه من الأخبار الغيبيَّة التي نؤمن بها كما وردت، ونُحجم عن الدخول في كيفيَّاتها وصورتها؛ لأنَّ العقل لا يملك الأدوات القادرة على ذلك، ثم نتدبَّر المقصود مِن إخبارنا بها، وهو مقصودٌ يسيرٌ على مَن يسَّرهُ الله عليه؛ فالنصُّ يوحي بكمال المُلك والسلطان والعظمة والعلو المُطلق، وهذا يكفي ويُريح عقولنا وقلوبنا من الجدل الذي لا نتيجة له.
﴿یُدَبِّرُ ٱلۡأَمۡرَ مِنَ ٱلسَّمَاۤءِ إِلَى ٱلۡأَرۡضِ﴾ أي: هو سبحانه الذي يُدبِّرُ أمرَ السماوات والأرض، وهو الذي يُنزِّلُ وحيَه وأمرَه على أنبيائه من السماء إلى الأرض.
﴿ثُمَّ یَعۡرُجُ إِلَیۡهِ﴾ عمل الناس وأخبارهم وأحوالهم بما تُدوِّنه الملائكة، وهذه سنَّةٌ من سُننِ الله في تدبير الملك، أما علمُه سبحانه فهو عِلمٌ شاملٌ ومحيطٌ بكلِّ شيءٍ، ولا يحتاج إلى أداة أو واسطة.
﴿فِی یَوۡمࣲ كَانَ مِقۡدَارُهُۥۤ أَلۡفَ سَنَةࣲ مِّمَّا تَعُدُّونَ﴾ دليلٌ مُضافٌ على ما تقدَّمَ أنَّ اليومَ وِحدةٌ زمنيَّةٌ نسبيَّةٌ، فيوم الأرض غير يوم المريخ أو زحل، وأيام الله في هذا الكون الفَسِيح لا حصرَ لها، والله أعلم.
﴿ٱلَّذِیۤ أَحۡسَنَ كُلَّ شَیۡءٍ خَلَقَهُۥ ۖ﴾ أتقَنَه وأحكَمَه.
﴿ثُمَّ جَعَلَ نَسۡلَهُۥ مِن سُلَـٰلَةࣲ مِّن مَّاۤءࣲ مَّهِینࣲ﴾ تنبيهٌ إلى عظيم قُدرة الله؛ حيث خلق هذا الإنسان المُتكامِل الخلق، والحَسَن الصورة والقَوَام من ماءٍ مهينٍ يُستقذَرُ منه، وهو ماءُ الرجل.
﴿ثُمَّ سَوَّىٰهُ وَنَفَخَ فِیهِ مِن رُّوحِهِۦۖ﴾ نفَخَ فيه الروحَ التي خلقها الله له، وإضافةُ الروح إلى الله إضافةَ ملكٍ واختصاصٍ لا إضافة أبعاضٍ وصفاتٍ، كما نقول: سماءُ الله، وأرضُ الله، وبيتُ الله، وخَلْقُ الله.
﴿وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمۡعَ وَٱلۡأَبۡصَـٰرَ وَٱلۡأَفۡـِٔدَةَۚ﴾ تنبيهٌ إلى أدوات المعرفة التي هي شرط التكليف وتحمُّل المسؤوليَّة، وقوله عقِبَها:
﴿قَلِیلࣰا مَّا تَشۡكُرُونَ﴾ إشارةٌ إلى أنَّ من يُعطِّل هذه الأدوات لا يهتدي إلى الحقِّ، ولا يَقدِر على الشكر.
﴿وَقَالُوۤاْ أَءِذَا ضَلَلۡنَا فِی ٱلۡأَرۡضِ أَءِنَّا لَفِی خَلۡقࣲ جَدِیدِۭۚ﴾ يسألُ المشركون سؤالَ المُستهزِئِ المُستكبِرِ عن كيفيَّة عودتهم بعد أن يُدفنوا في الأرض، ويضِيعوا في تُرابها.
﴿۞ قُلۡ یَتَوَفَّىٰكُم مَّلَكُ ٱلۡمَوۡتِ ٱلَّذِی وُكِّلَ بِكُمۡ﴾ أي: وُكِّلَ بقبض أرواحكم، وفيه دليلٌ أنَّ الملائكة لهم وظائف مختلفة تتعلَّق بالخلق وإدارته وفق سُنن الله والنظام الذي اختارَه لهذا الكون.
﴿وَلَوۡ تَرَىٰۤ إِذِ ٱلۡمُجۡرِمُونَ نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمۡ﴾ خَجَلًا وندامةً.
﴿أَبۡصَرۡنَا وَسَمِعۡنَا﴾ أي: نحن الآن نسمَعُ ونُبصِر لا كما كنَّا في الدنيا.
﴿وَلَـٰكِنۡ حَقَّ ٱلۡقَوۡلُ مِنِّی لَأَمۡلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلۡجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجۡمَعِینَ﴾ ذلك قوله تعالى الذي توعَّدَ به إبليسُ وجُنده:
﴿قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغۡوِیَنَّهُمۡ أَجۡمَعِینَ ﴿٨٢﴾ إِلَّا عِبَادَكَ مِنۡهُمُ ٱلۡمُخۡلَصِینَ ﴿٨٣﴾ قَالَ فَٱلۡحَقُّ وَٱلۡحَقَّ أَقُولُ ﴿٨٤﴾ لَأَمۡلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنۡهُمۡ أَجۡمَعِینَ﴾ [ص: 82- 85].
﴿وَسَبَّحُواْ بِحَمۡدِ رَبِّهِمۡ﴾ الباء للمصاحبة، بمعنى أنَّهم يُسبِّحون الله ويحمدونه معًا.
﴿تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمۡ عَنِ ٱلۡمَضَاجِعِ﴾ أي: ينهَضُون من نومهم لأداء الصلاة والعبادة والدعاء.
﴿فَلَا تَعۡلَمُ نَفۡسࣱ مَّاۤ أُخۡفِیَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعۡیُنࣲ﴾ أي: لا يعلم أحدٌ من الخلق حقيقة النعيم الذي أعدَّه الله لهؤلاء المؤمنين، وهذا أسلوبٌ معروفٌ في تعظيم الأمر والمبالغة فيه، وذلك فضلُ الله وكرمُه الذي ليس له حدٌّ.
﴿أَفَمَن كَانَ مُؤۡمِنࣰا كَمَن كَانَ فَاسِقࣰاۚ لَّا یَسۡتَوُۥنَ﴾ تأكيدٌ لمبدأ العدل الإلهي؛ فكلُّ إنسانٍ مجزِيٌّ بعمله، والعمل معيارُ التفاضل، أمّا الأشياء المكتوبة قدرًا على الإنسان كجنسه ونسبه ولون بشرته، فهذه لا اعتبار لها في ميزان الله.
﴿جَنَّـٰتُ ٱلۡمَأۡوَىٰ﴾ التي يأوي إليها المؤمنون، وفيه معنى السكينة والاستقرار.
﴿نُزُلَۢا﴾ أي: إكرامًا لهم، وأصل النُّزُل ما يُقدَّم للضيف.
﴿كُلَّمَاۤ أَرَادُوۤاْ أَن یَخۡرُجُواْ مِنۡهَاۤ أُعِیدُواْ فِیهَا﴾ أي: كلَّما طلبوا الخروج منها تجدَّدَ الأمر بمُكُوثهم فيها، فلا يخرجون منها أبدًا.
﴿وَلَنُذِیقَنَّهُم مِّنَ ٱلۡعَذَابِ ٱلۡأَدۡنَىٰ﴾ أي: من مصائب الدنيا؛ كالفقر، والمرض، والقتل، والمِحَن.
﴿دُونَ ٱلۡعَذَابِ ٱلۡأَكۡبَرِ﴾ قبل عذاب الآخرة.
﴿لَعَلَّهُمۡ یَرۡجِعُونَ﴾ يتَّعِظُون فيستغفِرُون ويتوبُون.
﴿وَلَقَدۡ ءَاتَیۡنَا مُوسَى ٱلۡكِتَـٰبَ فَلَا تَكُن فِی مِرۡیَةࣲ مِّن لِّقَاۤىِٕهِۦۖ﴾ الظاهر من السياق أنّه لقاء الآخرة، وفائدةُ تأكيد لقاء نبيِّنا محمدٍ بأخيه موسى
عليهما السلام في ذلك اليوم - مع ما فيه من تأكيد الحياة الأخرى - أنَّ موسى صاحب رسالة، وقد دعا قومه كسائر الأنبياء والرسل إلى توحيد الله والإيمان باليوم الآخر، فانقسم الناس على فريقَين كما انقسم الناس في رسالة محمدٍ
ﷺ.
وقد تقدَّم أنَّ الكافرين المُكذِّبين سيَرَون هناك الحقيقة التي كذَّبُوا بها وسيندمون، فناسَبَ أن يُؤكِّد القرآنُ لمحمدٍ
ﷺ ولأُمَّته من بعده أنّهم سيلتَقون بمن سبَقَهم من الأنبياء والمرسلين وأتباعهم وأحبابهم، وسيكون ذلك اللقاء مُتمِّمًا لسعادتهم، فما قرَأناه في آيات القرآن من أخبارٍ وقصصٍ عن أولئك الصفوة الأخيار سنراه عيانًا، وفي ذلك أيضًا مزيد حسرةٍ للكافرين والمُكذِّبين، ثم إنَّ رسالة موسى بالتحديد هي الأقرب إلى رسالة محمدٍ
عليهما السلام؛ ولذلك كان الاستشهادُ بها أكثر، ووُرُودها في القرآن أطول، والله أعلم.
وأما قوله:
﴿فَلَا تَكُن فِی مِرۡیَةࣲ﴾ فهو بمعنى أنّه أمرٌ يقين، وليس معناه نهي النبيِّ
ﷺ عن الشكِّ، إلا إذا حُمِلَ على أنّ النهي مُوجَّهٌ إلى غيره، كما في قوله تعالى:
﴿لَىِٕنۡ أَشۡرَكۡتَ لَیَحۡبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾ [الزمر: 65]، والله أعلم.
﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ یَفۡصِلُ بَیۡنَهُمۡ یَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِ فِیمَا كَانُواْ فِیهِ یَخۡتَلِفُونَ﴾ أي: بين الفريقَين على امتداد التاريخ؛ ففي كلِّ حلقةٍ من حلقات الدعوة هنالك مُصدِّقٌ، وهنالك مُكذِّبٌ، وهنالك صالحٌ، وهنالك طالحٌ، فغدًا سيتمايز الناس على فريقَين: فريق الأنبياء ومن صدَّق بهم واتبع هديَهم، وفريق المحرومين الأشقياء مِن المكذِّبين والمعانِدين.
﴿ٱلۡأَرۡضِ ٱلۡجُرُزِ﴾ الأرض القاحِلة الميتة التي ليس فيها نبات.
﴿وَیَقُولُونَ مَتَىٰ هَـٰذَا ٱلۡفَتۡحُ﴾ أي: متى يوم اللقاء هذا والحساب والجزاء والفصل بين الخلائق؟
وهو سؤالٌ يُورِدُه المكذِّبون على سبيل السُّخرية والاستهزاء، ويبعُد في السياق أن يكون
الفتح بمعنى
النصر في بدرٍ أو غيرها؛ إذ السياق عن البعث والحساب، ثم إنَّ قوله تعالى في تتمَّة الآية:
﴿قُلۡ یَوۡمَ ٱلۡفَتۡحِ لَا یَنفَعُ ٱلَّذِینَ كَفَرُوۤاْ إِیمَـٰنُهُمۡ﴾ دليلٌ واضحٌ على أنَّه يوم القيامة، والله أعلم.
﴿فَأَعۡرِضۡ عَنۡهُمۡ وَٱنتَظِرۡ إِنَّهُم مُّنتَظِرُونَ﴾ أي: مُنتظِرون لعذابهم؛ لأنَّه واقعٌ بهم لا محالة وإن كانوا غافلين عنه، كما تقول للماشِي في طريق الهلاك أنّه ينتظر هلاكَه، وإن كان هو لا يترقَّبه ولا يتشوَّف له.