سورة الأحزاب تفسير مجالس النور الآية 53

یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ لَا تَدۡخُلُواْ بُیُوتَ ٱلنَّبِیِّ إِلَّاۤ أَن یُؤۡذَنَ لَكُمۡ إِلَىٰ طَعَامٍ غَیۡرَ نَـٰظِرِینَ إِنَىٰهُ وَلَـٰكِنۡ إِذَا دُعِیتُمۡ فَٱدۡخُلُواْ فَإِذَا طَعِمۡتُمۡ فَٱنتَشِرُواْ وَلَا مُسۡتَـٔۡنِسِینَ لِحَدِیثٍۚ إِنَّ ذَ ٰ⁠لِكُمۡ كَانَ یُؤۡذِی ٱلنَّبِیَّ فَیَسۡتَحۡیِۦ مِنكُمۡۖ وَٱللَّهُ لَا یَسۡتَحۡیِۦ مِنَ ٱلۡحَقِّ ۚ وَإِذَا سَأَلۡتُمُوهُنَّ مَتَـٰعࣰا فَسۡـَٔلُوهُنَّ مِن وَرَاۤءِ حِجَابࣲۚ ذَ ٰ⁠لِكُمۡ أَطۡهَرُ لِقُلُوبِكُمۡ وَقُلُوبِهِنَّۚ وَمَا كَانَ لَكُمۡ أَن تُؤۡذُواْ رَسُولَ ٱللَّهِ وَلَاۤ أَن تَنكِحُوۤاْ أَزۡوَ ٰ⁠جَهُۥ مِنۢ بَعۡدِهِۦۤ أَبَدًاۚ إِنَّ ذَ ٰ⁠لِكُمۡ كَانَ عِندَ ٱللَّهِ عَظِیمًا ﴿٥٣﴾

تفسير مجالس النور سورة الأحزاب

المجلس الحادي والتسعون بعد المائة: وما كان لكم أن تُؤذوا رسولَ الله


من الآية (53- 73)


في الرُّبع المُتبقِّي من هذه السورة يتناول القرآن مسائل وقضايا مختلفة، لكنها تنتظم كلّها تقريبًا في مواجهة الأذى الذي كان يتعرَّض له رسول الله وأهل بيته والمؤمنون والمؤمنات عامَّةً؛ حيث تكرَّر الفعل: ﴿یُؤۡذِی﴾ وما اشتق من جذره في هذه الآيات ستّ مرات، هذا عدا الألفاظ الأخرى التي تدخل في معناه؛ كالبُهتان والإرجاف والظلم، وقد شخَّصَت هذه الآيات مصادر هذا الأذى ومستوياته، ثم شرحت منهجيَّة التعامل معه والأحكام المناسبة له، وكما يأتي:
أولًا: بدأ القرآن بتنبيه المؤمنين أنفسهم إلى ما قد يقع منهم عن غير قصدٍ، مما يُسبِّب أذًى لرسولِ الله ولأهل بيته رضي الله عنهم وأرضاهم ﴿یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ لَا تَدۡخُلُواْ بُیُوتَ ٱلنَّبِیِّ إِلَّاۤ أَن یُؤۡذَنَ لَكُمۡ إِلَىٰ طَعَامٍ غَیۡرَ نَـٰظِرِینَ إِنَىٰهُ وَلَـٰكِنۡ إِذَا دُعِیتُمۡ فَٱدۡخُلُواْ فَإِذَا طَعِمۡتُمۡ فَٱنتَشِرُواْ وَلَا مُسۡتَـٔۡنِسِینَ لِحَدِیثٍۚ إِنَّ ذَ ٰ⁠لِكُمۡ كَانَ یُؤۡذِی ٱلنَّبِیَّ فَیَسۡتَحۡیِۦ مِنكُمۡۖ وَٱللَّهُ لَا یَسۡتَحۡیِۦ مِنَ ٱلۡحَقِّ ۚ﴾.
ثم يشرع القرآن في وضع الأحكام العمليَّة المُلزِمة للجميع في حياته وبعد انتقاله ﴿إِذَا سَأَلۡتُمُوهُنَّ مَتَـٰعࣰا فَسۡـَٔلُوهُنَّ مِن وَرَاۤءِ حِجَابࣲۚ ذَ ٰ⁠لِكُمۡ أَطۡهَرُ لِقُلُوبِكُمۡ وَقُلُوبِهِنَّۚ وَمَا كَانَ لَكُمۡ أَن تُؤۡذُواْ رَسُولَ ٱللَّهِ وَلَاۤ أَن تَنكِحُوۤاْ أَزۡوَ ٰ⁠جَهُۥ مِنۢ بَعۡدِهِۦۤ أَبَدًاۚ إِنَّ ذَ ٰ⁠لِكُمۡ كَانَ عِندَ ٱللَّهِ عَظِیمًا ﴿٥٣﴾ إِن تُبۡدُواْ شَیۡـًٔا أَوۡ تُخۡفُوهُ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَیۡءٍ عَلِیمࣰا﴾.
ثانيًا: استثنَى القرآنُ الكريمُ من أحكام الدخول والمكوث والسؤال والاختلاط التي ورَدَت آنِفًا عددًا من الرجال والنساء الذين تربِطهم بزوجات النبيِّ صِلات خاصَّة، وفي مُقدِّمتهم المحارِم ﴿لَّا جُنَاحَ عَلَیۡهِنَّ فِیۤ ءَابَاۤىِٕهِنَّ وَلَاۤ أَبۡنَاۤىِٕهِنَّ وَلَاۤ إِخۡوَ ٰ⁠نِهِنَّ وَلَاۤ أَبۡنَاۤءِ إِخۡوَ ٰ⁠نِهِنَّ وَلَاۤ أَبۡنَاۤءِ أَخَوَ ٰ⁠تِهِنَّ وَلَا نِسَاۤىِٕهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتۡ أَیۡمَـٰنُهُنَّۗ وَٱتَّقِینَ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ شَهِیدًا﴾.
ثالثًا: يدعو القرآن الكريم المؤمنين إلى معرفة رسول الله ومكانته عند الله تبارك وتعالى وعند ملائكته، ثم يأمرهم بما من شأنه أن يُعمِّق فيهم هذه المعرفة، ويُذكِّرُهم دائمًا بهذه المكانة ﴿إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَـٰۤىِٕكَتَهُۥ یُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِیِّ ۚ یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ صَلُّواْ عَلَیۡهِ وَسَلِّمُواْ تَسۡلِیمًا﴾، ولا شكَّ أنّ هذه تربية عمليَّة يحتاجها المؤمنون في علاقتهم مع رسول الله أكثر من حاجَتِه إليها بأبي هو وأمِّي.
رابعًا: يُحذِّرُ القرآن الكريم أولئك الذين يُؤذُون رسولَ الله ويُؤذُون المؤمنين والمؤمنات عن قصدٍ وسوء نيَّةٍ - والإشارة هنا للمنافقين -، مُبيِّنًا لهم أنَّ هذا الإيذاء كأنَّه إيذاءٌ لله، والله سبحانه لا يلحَقُه أذًى ﴿إِنَّ ٱلَّذِینَ یُؤۡذُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ لَعَنَهُمُ ٱللَّهُ فِی ٱلدُّنۡیَا وَٱلۡأَخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمۡ عَذَابࣰا مُّهِینࣰا ﴿٥٧﴾ وَٱلَّذِینَ یُؤۡذُونَ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ وَٱلۡمُؤۡمِنَـٰتِ بِغَیۡرِ مَا ٱكۡتَسَبُواْ فَقَدِ ٱحۡتَمَلُواْ بُهۡتَـٰنࣰا وَإِثۡمࣰا مُّبِینࣰا﴾.
خامسًا: يُوجِّه القرآن الكريم أهلَ بيت النبيِّ وسائرَ نساء المؤمنين بالستر، والالتِزام بالحجاب الشرعي؛ ففيه الوقاية والحماية لهنَّ من أذى المنافقين وضِعاف الإيمان والنفوس: ﴿یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلنَّبِیُّ قُل لِّأَزۡوَ ٰ⁠جِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاۤءِ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ یُدۡنِینَ عَلَیۡهِنَّ مِن جَلَـٰبِیبِهِنَّۚ ذَ ٰ⁠لِكَ أَدۡنَىٰۤ أَن یُعۡرَفۡنَ فَلَا یُؤۡذَیۡنَۗ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورࣰا رَّحِیمࣰا﴾.
سادسًا: يُصدرُ القرآن تهديدَه الشديد للمنافقين الذين هم مصدرُ الإرجاف والأذى والشائعات الباطلة ﴿۞ لَّىِٕن لَّمۡ یَنتَهِ ٱلۡمُنَـٰفِقُونَ وَٱلَّذِینَ فِی قُلُوبِهِم مَّرَضࣱ وَٱلۡمُرۡجِفُونَ فِی ٱلۡمَدِینَةِ لَنُغۡرِیَنَّكَ بِهِمۡ ثُمَّ لَا یُجَاوِرُونَكَ فِیهَاۤ إِلَّا قَلِیلࣰا ﴿٦٠﴾ مَّلۡعُونِینَۖ أَیۡنَمَا ثُقِفُوۤاْ أُخِذُواْ وَقُتِّلُواْ تَقۡتِیلࣰا ﴿٦١﴾ سُنَّةَ ٱللَّهِ فِی ٱلَّذِینَ خَلَوۡاْ مِن قَبۡلُۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ تَبۡدِیلࣰا﴾.
ومعلومٌ أنّ المنافقين يعيشون مع المؤمنين في دولةٍ واحدة، وفي مجتمعٍ واحدٍ، وقد ضمِنَ لهم الإسلام حقوقَهم المدنيَّة في الأمن والعمل، وحريَّة التنقُّل على أنّهم جزءٌ من المسلمين بحسب حكمهم الظاهر، لكن المنافقين استغلُّوا هذا الغطاء لتمرير مكائدهم، ثم بلغ بهم الصَّلَف أن يُجاهِروا بعداوتهم للمؤمنين في كلِّ نائبةٍ أو مناسبةٍ، مِن هنا كان هذا التهديد بمثابة الإنذار قبل أن يتعامل معهم النبيُّ كما يتعامل مع الأعداء الظاهرين، والمعلوم أنَّ هذا التهديد بقِيَ في إطار التهديد والتخويف ولم يتحوَّل إلى حربٍ مفتوحةٍ معهم، وبقِيَ المنافقون يعيشون بأمنٍ وأمانٍ في ظلِّ دولة العدل مع كلِّ ما اقترفوه.
سابعًا: يذكِّرُ القرآن الكريم بذلك اليوم الذي تنتهي فيه هذه الحياة؛ ليتهيَّأ الجميعُ لمُلاقاة ما عملوا وما قدَّموا، وفي هذا تهديدٌ آخر للمنافقين ومن يقِف خلفهم ﴿یَسۡـَٔلُكَ ٱلنَّاسُ عَنِ ٱلسَّاعَةِۖ قُلۡ إِنَّمَا عِلۡمُهَا عِندَ ٱللَّهِۚ وَمَا یُدۡرِیكَ لَعَلَّ ٱلسَّاعَةَ تَكُونُ قَرِیبًا ﴿٦٣﴾ إِنَّ ٱللَّهَ لَعَنَ ٱلۡكَـٰفِرِینَ وَأَعَدَّ لَهُمۡ سَعِیرًا ﴿٦٤﴾ خَـٰلِدِینَ فِیهَاۤ أَبَدࣰاۖ لَّا یَجِدُونَ وَلِیࣰّا وَلَا نَصِیرࣰا ﴿٦٥﴾ یَوۡمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمۡ فِی ٱلنَّارِ یَقُولُونَ یَـٰلَیۡتَنَاۤ أَطَعۡنَا ٱللَّهَ وَأَطَعۡنَا ٱلرَّسُولَا۠﴾.
ثامنًا: يُذكِّرُ القرآن أيضًا بالدور الذي يقوم به القادة وكُبَراء القوم في إضلال الناس ودفعهم لمحاربة الحقِّ وأهله ﴿وَقَالُواْ رَبَّنَاۤ إِنَّـاۤ أَطَعۡنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاۤءَنَا فَأَضَلُّونَا ٱلسَّبِیلَا۠ ﴿٦٧﴾ رَبَّنَاۤ ءَاتِهِمۡ ضِعۡفَیۡنِ مِنَ ٱلۡعَذَابِ وَٱلۡعَنۡهُمۡ لَعۡنࣰا كَبِیرࣰا﴾.
تاسعًا: يربِطُ القرآن بين ما يحصل للنبيِّ الكريم من الأذى المقصود وغير المقصود، وبين الأذى الذي كان يتعرَّض له موسى عليه السلام، في إشارةٍ إلى شدَّة الترابُط والتشابُه بين الرسالتَين، وحاجة الأُمَّة المحمديَّة، وهي الأُمَّة البديلة عن قوم موسى لاستِلهام التجربة السابقة، والاتِّعاظ بها والتعلُّم منها ﴿یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ لَا تَكُونُواْ كَٱلَّذِینَ ءَاذَوۡاْ مُوسَىٰ فَبَرَّأَهُ ٱللَّهُ مِمَّا قَالُواْۚ وَكَانَ عِندَ ٱللَّهِ وَجِیهࣰا ﴿٦٩﴾ یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَقُولُواْ قَوۡلࣰا سَدِیدࣰا ﴿٧٠﴾ یُصۡلِحۡ لَكُمۡ أَعۡمَـٰلَكُمۡ وَیَغۡفِرۡ لَكُمۡ ذُنُوبَكُمۡۗ وَمَن یُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ فَقَدۡ فَازَ فَوۡزًا عَظِیمًا﴾.
عاشرًا: يختِمُ القرآن الكريم هذه السورة العزيزة بقضية الإنسان الكبرى: قضية استخلافه في الأرض وتحمُّله لأمانتها، والمصير المحتوم الذي سيَلقَى كلُّ إنسان فيه حسابه وجزاءه، وما قدَّمه على هذه الأرض من خيرٍ أو شرٍّ ﴿إِنَّا عَرَضۡنَا ٱلۡأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱلۡجِبَالِ فَأَبَیۡنَ أَن یَحۡمِلۡنَهَا وَأَشۡفَقۡنَ مِنۡهَا وَحَمَلَهَا ٱلۡإِنسَـٰنُۖ إِنَّهُۥ كَانَ ظَلُومࣰا جَهُولࣰا ﴿٧٢﴾ لِّیُعَذِّبَ ٱللَّهُ ٱلۡمُنَـٰفِقِینَ وَٱلۡمُنَـٰفِقَـٰتِ وَٱلۡمُشۡرِكِینَ وَٱلۡمُشۡرِكَـٰتِ وَیَتُوبَ ٱللَّهُ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِینَ وَٱلۡمُؤۡمِنَـٰتِۗ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورࣰا رَّحِیمَۢا﴾.


﴿یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ لَا تَدۡخُلُواْ بُیُوتَ ٱلنَّبِیِّ إِلَّاۤ أَن یُؤۡذَنَ لَكُمۡ إِلَىٰ طَعَامٍ غَیۡرَ نَـٰظِرِینَ إِنَىٰهُ﴾ هذه الآية أصلٌ في آداب الدخول على البيوت، وقد نهى القرآن المسلمين أن يدخلوا على بيت رسول الله من غير إذنٍ، ثم نبَّه إلى مسألةٍ دقيقةٍ، وهي أنّ بعضهم كان يدخل من دون استئذانٍ منتظرًا نُضجَ الطعام، وقد يمكُث طويلًا حتى ينضج، فيُثقِل على أهل البيت، ومنهم من يطُولُ بهم الحديث حتى بعد الطعام.
و﴿نَـٰظِرِینَ إِنَىٰهُ﴾ أي: مُنتظرِين نُضجَه، و﴿وَلَا مُسۡتَـٔۡنِسِینَ لِحَدِیثٍۚ﴾ أي: تمكُثون طويلًا بسبب أُنسِكم في الكلام مع بعضكم، ثم أرشدَهم إلى السلوك الأقوَم فقال: ﴿وَلَـٰكِنۡ إِذَا دُعِیتُمۡ فَٱدۡخُلُواْ فَإِذَا طَعِمۡتُمۡ فَٱنتَشِرُواْ﴾ ومجموع الكلام يتركَّز في أدَبَين: أدب الدخول، وأدب المكوث.
﴿إِنَّ ذَ ٰ⁠لِكُمۡ كَانَ یُؤۡذِی ٱلنَّبِیَّ﴾ أي: الدخول من دون استِئذان، وطول المكوث من غير حاجة.
﴿فَیَسۡتَحۡیِۦ مِنكُمۡۖ﴾ فكان رسولُ الله يتحمَّل هذا الأذى، ولا يُنبِّهُهم إليه؛ لشدَّة حيائه، بأبي هو وأمِّي.
﴿وَإِذَا سَأَلۡتُمُوهُنَّ مَتَـٰعࣰا﴾ من بيوتهنَّ.
﴿فَسۡـَٔلُوهُنَّ مِن وَرَاۤءِ حِجَابࣲۚ﴾ أي: لا تدخلوا عليهنَّ، والظاهر أنّ الحجاب هنا ما يستُر البيت، أما ستر الجسد فليس له صلةٌ بسؤال المتاع، فالمرأة إن كانت خارج بيتها فالخطاب بالستر والاحتجاب يُوجَّه إليها، والله أعلم.
﴿وَمَا كَانَ لَكُمۡ أَن تُؤۡذُواْ رَسُولَ ٱللَّهِ﴾ بهذه الأشياء، التي تنمُّ عن قلَّةٍ في النباهة، وعدم مُراعاة الحال.
﴿وَلَاۤ أَن تَنكِحُوۤاْ أَزۡوَ ٰ⁠جَهُۥ مِنۢ بَعۡدِهِۦۤ﴾ فأُمَّهات المؤمنين حرامٌ على المؤمنين حُرمةً مُؤبَّدةً، لا تنقضي بعدَّةٍ ولا بغيرها.
﴿وَلَا نِسَاۤىِٕهِنَّ﴾ أي: من يثِقن بهنَّ من النساء المسلمات، فلا يحتَجِبن عنهنَّ.
﴿یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ صَلُّواْ عَلَیۡهِ وَسَلِّمُواْ تَسۡلِیمًا﴾ الصلاة والسلام على رسول الله من الأذكار العظيمة والعبادات الجليلة التي تُبتغَى بها القُربى، وقد وردَت بإطلاقٍ دون تقييدٍ بعددٍ، ولا كيفيَّةٍ، ولا صيغةٍ مُحدَّدة، ليَسْبَحَ المؤمنُ في هذا الفضاء الجميل في أي زمانٍ ومكانٍ وحالٍ، ومن فوائد هذا الذكر: استِذكار صفاته وحقوقه على أُمَّته، ليكون المحورَ الذي يلتقي عليه المسلمون، والرايةَ التي يلتفُّون حولها، والحقَّ الذي يحتكمون إليه، إنَّها ليست ذِكْرًا مُجرَّدًا، بل هي وسيلةٌ لربط هذه القلوب بأُسوَتها الحسنة، وعنوان وحدتها، وطريق استقامتها، فعليك صلاةُ الله وسلامُه سيِّدي رسول الله ما دامَت السماواتُ والأرضُ.
﴿إِنَّ ٱلَّذِینَ یُؤۡذُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ لَعَنَهُمُ ٱللَّهُ﴾ هؤلاء هم الذين يؤذُون رسول الله عن عداوةٍ له، بخلاف أولئك الذين مرَّ ذِكرهم من المسلمين الذين قد يؤذونه عن غير قصدٍ، وإنّما لقلَّة النباهة والاحتياط.
﴿بِغَیۡرِ مَا ٱكۡتَسَبُواْ﴾ بغير ذنبٍ وقعوا فيه يستوجِبُ هذا الإيذاء، بمعنى أنّ المنافقين يؤذون المؤمنين لإيمانهم لا لشيءٍ آخر.
﴿قُل لِّأَزۡوَ ٰ⁠جِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاۤءِ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ﴾ قدَّم نساءَ النبي وبناتِه؛ لأنّهنَّ القدوةُ والمثلُ الأعلى للنساء المُسلِمات.
﴿یُدۡنِینَ عَلَیۡهِنَّ مِن جَلَـٰبِیبِهِنَّۚ﴾ والجِلباب: الثوب الذي يستر جسد المرأة، فيُدنِينَه بمعنى: يُسدِلْنه من فوق رؤوسهنَّ، وهذا لا يكون في الثوب الضيِّق؛ لأنّه لا يُسدَل، ولا في الشَّفَّاف؛ لأنه لا يستر. أمّا مسألة الوجه والكفين فلا تتناولها الآية، والأَوْلى عدم تحميل النصّ أكثر مما يحتمل، ومَن أراد بحث هذه المسألة فلينظر في كُتب السنَّة وتطبيقات الصحابة رضوان الله عليهم، وفي كتب الفقه.
﴿ذَ ٰ⁠لِكَ أَدۡنَىٰۤ أَن یُعۡرَفۡنَ فَلَا یُؤۡذَیۡنَۗ﴾ بمعنى أنّ هذا الستر أقرب إلى أن يعرفَ الناس أنّهنَّ حرائر مُحتشِمات، فلا يتعرَّض بالأذيَّة لهنَّ أحدٌ، والأذى الذي هو مناط الحكم هو الأذى الذي يقع على المرأة من جرأةٍ في الكلام معها بغير ما ينبغي، إلى الأذى بالاعتداء المباشر، أمّا أن يُحدِّثَ المرء نفسه بحديث سوءٍ فإنّما إثمه عليه، وليس هذا هو الأذى؛ لأنّ هذا لا يمكن التستُّر عنه، وعليه فإن كانت المرأة في بيئةٍ غير آمنة، وليس هناك من يحميها، فإنّ خروجها لا يجوز حتى لو كانت بكامل حجابها وسترها، والله أعلم.
﴿وَٱلۡمُرۡجِفُونَ فِی ٱلۡمَدِینَةِ﴾ هم الذين يُروِّجُون الأخبار الكاذِبة التي تُثيرُ الفتَنَ والاضطرابَ في صفُوف المُسلمين.
﴿لَنُغۡرِیَنَّكَ بِهِمۡ﴾ أي: لنُسلِّطنَّك عليهم، ولنُرغبنَّك بقتالهم.
﴿مَّلۡعُونِینَۖ أَیۡنَمَا ثُقِفُوۤاْ أُخِذُواْ وَقُتِّلُواْ تَقۡتِیلࣰا﴾ أي: في حالةِ تسليط الله المسلمين عليهم، وإذنِهِ بقتالهم، وهي صورةٌ قصد بها ردع المنافقين وتخويفهم، ولم يرِد أنّه قاتلهم أو أذِنَ بقتالهم.
﴿یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ لَا تَكُونُواْ كَٱلَّذِینَ ءَاذَوۡاْ مُوسَىٰ فَبَرَّأَهُ ٱللَّهُ مِمَّا قَالُواْۚ﴾ لم يذكر القرآن في هذه الآية نوعَ الأذى الذي تعرَّض له موسى عليه السلام، فكأنَّ المقصود التذكير بجنس الأذى لا بنوعه، فهذا يكفي للاعتبار، وقد أورد القرآن في غير هذا الموضع أنواعًا من الأذى من قِبَل قومه ومن قِبَل أعدائه، وفي السُنَّة كذلك، وليس هنا محل التفصيل.
﴿وَكَانَ عِندَ ٱللَّهِ وَجِیهࣰا﴾ ذا جاهٍ ومنزلةٍ.
﴿وَقُولُواْ قَوۡلࣰا سَدِیدࣰا﴾ أي: صوابًا ليس فيه ظلمٌ ولا حَيفٌ، وفيه تذكيرٌ وتأكيدٌ لأهميَّة القولِ ومسؤوليَّة الكلمة.
﴿إِنَّا عَرَضۡنَا ٱلۡأَمَانَةَ﴾ مسؤوليَّة التكليف وإعمار الأرض وإدارتها بمنهج الله، وتلك هي الخلافة عن الله: ﴿وَإِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَـٰۤىِٕكَةِ إِنِّی جَاعِلࣱ فِی ٱلۡأَرۡضِ خَلِیفَةࣰۖ﴾ [البقرة: 30].
﴿عَلَى ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱلۡجِبَالِ فَأَبَیۡنَ أَن یَحۡمِلۡنَهَا وَأَشۡفَقۡنَ مِنۡهَا﴾ لأنّ هذه المخلوقات لا عقل لها، ولا خيار لديها، ومن ثَمَّ فهي لا تَقوَى على حمل هذه الأمانة التكليفيَّة.
﴿وَحَمَلَهَا ٱلۡإِنسَـٰنُۖ﴾ بما أودَعَه الله فيه من عقلٍ مُميِّزٍ، وإرادةٍ حرَّةٍ قادرةٍ على الدخول في ميدان الاختبار، مع استعدادٍ فطريٍّ للتعلُّم والاستفادة من التجارب؛ ولذلك قال الله تعالى: ﴿وَعَلَّمَ ءَادَمَ ٱلۡأَسۡمَاۤءَ كُلَّهَا﴾ [البقرة: 31].
﴿إِنَّهُۥ كَانَ ظَلُومࣰا جَهُولࣰا﴾ ليس لأنّه حمل الأمانة، فحَمْلُ الأمانة شَرَفٌ لآدم وذريته على سائر الخلق ﴿۞ وَلَقَدۡ كَرَّمۡنَا بَنِیۤ ءَادَمَ﴾ [الإسراء: 70]، وإنّما الظُّلم والجهل يلحق من كرَّمَه الله بهذه الأمانة ثم نكس عنها، وقرَّبَه الله وكرَّمَه وأسجَدَ له ملائكتَه، ثم راح يعبد الشيطان ويعبد الحجارة! وحاشا لله أن تلحق هذه الصفات كلَّ بني آدم وفيهم صفوة الخلق من الأنبياء والمرسلين وعباد الله الصالحين.
﴿لِّیُعَذِّبَ ٱللَّهُ ٱلۡمُنَـٰفِقِینَ وَٱلۡمُنَـٰفِقَـٰتِ وَٱلۡمُشۡرِكِینَ وَٱلۡمُشۡرِكَـٰتِ﴾ فهؤلاء هم أهل الظلم والجهل، ممن خانوا الأمانة، واختاروا النكوس والمهانة، وقد قدَّم المنافقين؛ لأنَّ السياقَ كان يتحدَّث عنهم وعن أذاهم لله ولرسوله وللمؤمنين.
﴿وَیَتُوبَ ٱللَّهُ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِینَ وَٱلۡمُؤۡمِنَـٰتِۗ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورࣰا رَّحِیمَۢا﴾ فهؤلاء هم أهل الولاية والكرامة، وهم المُقرَّبون عند الله؛ لثباتهم على الحقِّ، ونجاحهم في ميدان الاختبار.