سورة غافر تفسير مجالس النور الآية 57

لَخَلۡقُ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضِ أَكۡبَرُ مِنۡ خَلۡقِ ٱلنَّاسِ وَلَـٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا یَعۡلَمُونَ ﴿٥٧﴾

تفسير مجالس النور سورة غافر

المجلس التاسع بعد المائتين: الذين يُجادلون في آيات الله


الآية (55- 76)


بعد قصة الرجل المؤمن وحواراته مع قومه الفراعنة المشركين، عاد القرآن إلى مشركي مكّة ليكشف وهن عقيدتهم، وليردَّ عليهم عنادهم وجدالهم الباطل، وليرسم للمؤمنين معالم في طريقة التعامل معهم، وكما يأتي:
أولًا: أكَّد القرآن أهمية التحلِّي بالصبر، واللُّجوء إلى الله بالنسبة للداعية الذي يُواجِهُ هذا النوعَ من الناس، وقد جاء الخطابُ مُوجَّهًا للرسول ثم من خلاله لكل الدعاة في كل زمانٍ ومكانٍ ﴿فَٱصۡبِرۡ إِنَّ وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقࣱّ وَٱسۡتَغۡفِرۡ لِذَنۢبِكَ وَسَبِّحۡ بِحَمۡدِ رَبِّكَ بِٱلۡعَشِیِّ وَٱلۡإِبۡكَـٰرِ﴾.
ثانيًا: شخَّصَ القرآن بواعِثَ هذا العِناد والتكذيب المستمر، والمجادلة بغير علم ﴿إِنَّ ٱلَّذِینَ یُجَـٰدِلُونَ فِیۤ ءَایَـٰتِ ٱللَّهِ بِغَیۡرِ سُلۡطَـٰنٍ أَتَىٰهُمۡ﴾ فالكِبْرُ هو رأسُ الخطايا وأساس البلايا، ولقد ردَّ القرآن على المشركين كِبْرَهم هذا، مُبيِّنًا لهم حَجمَهم الصغير أمام هذا الخلق العظيم الذي لا يملِكون فيه نصيبًا، ولا يعلَمون عنه إلا قليلًا ﴿لَخَلۡقُ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضِ أَكۡبَرُ مِنۡ خَلۡقِ ٱلنَّاسِ وَلَـٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا یَعۡلَمُونَ﴾.
ثالثًا: نبَّه القرآن إلى أهميَّة فتح منافذ المعرفة، والتأمُّل في هذا الكون وما فيه من آيات ودلائل لا تَخفَى إلا على من عمِيَت بصيرَتُه، وكَلَّت قريحَتُه ﴿وَمَا یَسۡتَوِی ٱلۡأَعۡمَىٰ وَٱلۡبَصِیرُ﴾، ﴿ٱللَّهُ ٱلَّذِی جَعَلَ لَكُمُ ٱلَّیۡلَ لِتَسۡكُنُواْ فِیهِ وَٱلنَّهَارَ مُبۡصِرًاۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَذُو فَضۡلٍ عَلَى ٱلنَّاسِ وَلَـٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا یَشۡكُرُونَ ﴿٦١﴾ ذَ ٰ⁠لِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمۡ خَـٰلِقُ كُلِّ شَیۡءࣲ لَّاۤ إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَۖ فَأَنَّىٰ تُؤۡفَكُونَ ﴿٦٢﴾ كَذَ ٰ⁠لِكَ یُؤۡفَكُ ٱلَّذِینَ كَانُواْ بِـَٔایَـٰتِ ٱللَّهِ یَجۡحَدُونَ ﴿٦٣﴾ ٱللَّهُ ٱلَّذِی جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ قَرَارࣰا وَٱلسَّمَاۤءَ بِنَاۤءࣰ وَصَوَّرَكُمۡ فَأَحۡسَنَ صُوَرَكُمۡ وَرَزَقَكُم مِّنَ ٱلطَّیِّبَـٰتِۚ ذَ ٰ⁠لِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمۡۖ فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلۡعَـٰلَمِینَ﴾، ﴿هُوَ ٱلَّذِی خَلَقَكُم مِّن تُرَابࣲ ثُمَّ مِن نُّطۡفَةࣲ ثُمَّ مِنۡ عَلَقَةࣲ ثُمَّ یُخۡرِجُكُمۡ طِفۡلࣰا ثُمَّ لِتَبۡلُغُوۤاْ أَشُدَّكُمۡ ثُمَّ لِتَكُونُواْ شُیُوخࣰاۚ وَمِنكُم مَّن یُتَوَفَّىٰ مِن قَبۡلُۖ وَلِتَبۡلُغُوۤاْ أَجَلࣰا مُّسَمࣰّى وَلَعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ ﴿٦٧﴾ هُوَ ٱلَّذِی یُحۡیِۦ وَیُمِیتُۖ فَإِذَا قَضَىٰۤ أَمۡرࣰا فَإِنَّمَا یَقُولُ لَهُۥ كُن فَیَكُونُ﴾.
رابعًا: بيَّن القرآن أن دعوة الإسلام إنما هي دعوة التوحيد الخالص وعبادة الله وحده دون شريك ولا وسيط ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ٱدۡعُونِیۤ أَسۡتَجِبۡ لَكُمۡۚ إِنَّ ٱلَّذِینَ یَسۡتَكۡبِرُونَ عَنۡ عِبَادَتِی سَیَدۡخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِینَ﴾، ﴿هُوَ ٱلۡحَیُّ لَاۤ إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ فَٱدۡعُوهُ مُخۡلِصِینَ لَهُ ٱلدِّینَۗ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَـٰلَمِینَ ﴿٦٥﴾ ۞ قُلۡ إِنِّی نُهِیتُ أَنۡ أَعۡبُدَ ٱلَّذِینَ تَدۡعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ لَمَّا جَاۤءَنِیَ ٱلۡبَیِّنَـٰتُ مِن رَّبِّی وَأُمِرۡتُ أَنۡ أُسۡلِمَ لِرَبِّ ٱلۡعَـٰلَمِینَ﴾ .
خامسًا: حذَّر القرآن أولئك المشركين ممَّا ينتظرهم في آخرتهم؛ حيث لا ينفع التلاوُم، ولا يُجدِي الندم ﴿إِنَّ ٱلسَّاعَةَ لَـَٔاتِیَةࣱ لَّا رَیۡبَ فِیهَا وَلَـٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا یُؤۡمِنُونَ﴾، ﴿أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِینَ یُجَـٰدِلُونَ فِیۤ ءَایَـٰتِ ٱللَّهِ أَنَّىٰ یُصۡرَفُونَ ﴿٦٩﴾ ٱلَّذِینَ كَذَّبُواْ بِٱلۡكِتَـٰبِ وَبِمَاۤ أَرۡسَلۡنَا بِهِۦ رُسُلَنَاۖ فَسَوۡفَ یَعۡلَمُونَ ﴿٧٠﴾ إِذِ ٱلۡأَغۡلَـٰلُ فِیۤ أَعۡنَـٰقِهِمۡ وَٱلسَّلَـٰسِلُ یُسۡحَبُونَ ﴿٧١﴾ فِی ٱلۡحَمِیمِ ثُمَّ فِی ٱلنَّارِ یُسۡجَرُونَ ﴿٧٢﴾ ثُمَّ قِیلَ لَهُمۡ أَیۡنَ مَا كُنتُمۡ تُشۡرِكُونَ ﴿٧٣﴾ مِن دُونِ ٱلـلَّــهِۖ قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا بَل لَّمۡ نَكُن نَّدۡعُواْ مِن قَبۡلُ شَیۡـࣰٔاۚ كَذَ ٰ⁠لِكَ یُضِلُّ ٱللَّهُ ٱلۡكَـٰفِرِینَ ﴿٧٤﴾ ذَ ٰ⁠لِكُم بِمَا كُنتُمۡ تَفۡرَحُونَ فِی ٱلۡأَرۡضِ بِغَیۡرِ ٱلۡحَقِّ وَبِمَا كُنتُمۡ تَمۡرَحُونَ ﴿٧٥﴾ ٱدۡخُلُوۤاْ أَبۡوَ ٰ⁠بَ جَهَنَّمَ خَـٰلِدِینَ فِیهَاۖ فَبِئۡسَ مَثۡوَى ٱلۡمُتَكَبِّرِینَ﴾.


﴿وَٱسۡتَغۡفِرۡ لِذَنۢبِكَ﴾ لإظهار العبوديَّة الكاملة لله، واتهام النفس أمام الله من كمال العبوديَّة، ثم إنه هو الأسوة لأمته، ومنه يتعلمون التوبة والاستغفار كما يتعلمون الشريعة والدين كله.
﴿وَسَبِّحۡ بِحَمۡدِ رَبِّكَ﴾ الباء للمصاحبة، أي: سبِّح ربَّك مُستصحِبًا مع التسبيح الحمدَ.
﴿بِٱلۡعَشِیِّ وَٱلۡإِبۡكَـٰرِ﴾ عند غروب الشمس وشروقها.
﴿بِغَیۡرِ سُلۡطَـٰنٍ أَتَىٰهُمۡ﴾ بغير علم ولا دليل.
﴿إِن فِی صُدُورِهِمۡ إِلَّا كِبۡرࣱ﴾ أي: ليس في قلوبهم سوى الكِبر، وهو الذي يدفَعُهم إلى هذه المجادلة والمعاندة.
﴿مَّا هُم بِبَـٰلِغِیهِۚ﴾ أي: لا يقدِرُون على بلوغِ ما يدفَعُهم إليه كِبرُهم، بمعنى أن الله سيقهَرُهم ويُذِلُّهم.
﴿لَخَلۡقُ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضِ أَكۡبَرُ مِنۡ خَلۡقِ ٱلنَّاسِ﴾ فيه ردٌّ على مُنكِري البعث، بمعنى أن إعادة خلق الناس ليست بأكبر من خلق السماوات والأرض، والتي يُقِرُّ المشركون بأن الله تعالى هو الذي خلقها، وفيه أيضًا توبيخٌ لهؤلاء المُتكبِّرين المُتطاوِلين على الحق وهم لا يُعدُّون شيئًا أمام سعة هذا الكون وعظمته.
﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ٱدۡعُونِیۤ أَسۡتَجِبۡ لَكُمۡۚ إِنَّ ٱلَّذِینَ یَسۡتَكۡبِرُونَ عَنۡ عِبَادَتِی سَیَدۡخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِینَ﴾ الدعاء هنا معناه: العبادة بدلالة السياق، أي: اعبدوني أتقبَّل منكم وأُثِبكم على عبادتكم.
وأما الدعاء بمعنى السؤال، فلا شك أنه من العبادة؛ لما فيه من معنى التذلل والخضوع، إلا أن استجابة الدعاء ينبغي أن تُفهم بمعناها الصحيح، وهو أن الله يتقبَّل هذا الدعاء ويُثيب عليه، وليس شرطًا أن تأتي الاستجابة على وفق رغبة السائل؛ لأن هذا من شأنه أن يعطِّل نواميس الكون، فلكل إنسان أمنياته التي لو تحقَّقَت له ولكل سائلٍ مثله لتغيَّر هذا العالم، فلا يبقى فيه فقيرٌ، ولا مريضٌ، ولا مُبتلى، فضلًا عن رهبة الإنسان من الموت ورغبته في الخلود، ودعاء الناس بعضهم على بعض، فالله ـ يستجيب لعباده الصالحين بميزان حكمته ورحمته لا بميزان البشر ورغباتهم.
وقوله تعالى: ﴿إِنَّ ٱلَّذِینَ یَسۡتَكۡبِرُونَ عَنۡ عِبَادَتِی سَیَدۡخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِینَ﴾ أي: صاغرين مقهورين.
﴿وَٱلنَّهَارَ مُبۡصِرًاۚ﴾ أي: مُضيئًا صالحًا للإبصار والحركة والعمل.
﴿فَأَنَّىٰ تُؤۡفَكُونَ﴾ فكيف تُصرَفون عن الحق؟
﴿فَٱدۡعُوهُ مُخۡلِصِینَ لَهُ ٱلدِّینَۗ﴾ أي: فاعبُدُوه وحده ولا تشركوا به أحدًا.
﴿هُوَ ٱلَّذِی خَلَقَكُم مِّن تُرَابࣲ﴾ لأنه تعالى خلَقَ آدم من تراب وهو أبو البشر، ولأن جسد الإنسان إنما يتغذَّى وينمو بالنبات الذي يخرج من التراب، وبلحوم الحيوانات ومُنتجاتها، والحيوان إنما يتغذَّى من النبات كذلك، فأصلُ النشأة وسر استمرارها إنما هو التراب.
﴿ثُمَّ مِن نُّطۡفَةࣲ ثُمَّ مِنۡ عَلَقَةࣲ﴾ تقدم الحديث عن هذا في أوائل سورة الحج.
﴿فَإِذَا قَضَىٰۤ أَمۡرࣰا فَإِنَّمَا یَقُولُ لَهُۥ كُن فَیَكُونُ﴾ بمعنى أن الله لا يحتاج إلى الوسائل والوسائط، ولا إلى المعامل والهندسة الصناعية، وإنما إذا أراد شيئًا أو قضى أمرًا فيكون كما قضى وأراد.
﴿ثُمَّ فِی ٱلنَّارِ یُسۡجَرُونَ﴾ أي: يحرقون، فيكونون لجهنّم كأنهم وقودها وحطبها.
﴿ذَ ٰ⁠لِكُم بِمَا كُنتُمۡ تَفۡرَحُونَ فِی ٱلۡأَرۡضِ بِغَیۡرِ ٱلۡحَقِّ﴾ احتراز عن الفرح بنعمة الله وفضله، فإنما المذموم إنما هو فرح الطغاة بطغيانهم، والمتكبّرين بتكبّرهم.
﴿وَبِمَا كُنتُمۡ تَمۡرَحُونَ﴾ والمرح هو اللعب أيضًا، وثنّى به تنويعًا للخطاب، وتوسيعًا لما هم فيه من معنى الفرح الباطل والغفلة عن الحق.
﴿فَبِئۡسَ مَثۡوَى ٱلۡمُتَكَبِّرِینَ﴾ فبِئسَ المقام مقامهم.