سورة غافر تفسير مجالس النور الآية 80

وَلَكُمۡ فِیهَا مَنَـٰفِعُ وَلِتَبۡلُغُواْ عَلَیۡهَا حَاجَةࣰ فِی صُدُورِكُمۡ وَعَلَیۡهَا وَعَلَى ٱلۡفُلۡكِ تُحۡمَلُونَ ﴿٨٠﴾

تفسير مجالس النور سورة غافر

المجلس العاشر بعد المائتين: فاصبر إنَّ وعد الله حق


الآية (77- 85)


في خواتيم هذه السورة جاءت التوجيهات الربَّانية إلى الرسول الخاتم ثم لكل المؤمنين معه بالصبر على مشاقِّ الدعوة، وانتظار الوعد الإلهي الذي لا يتخلَّف لا في الدنيا ولا في الآخرة، فعاقبة المؤمنين إلى خيرٍ طال الزمان أم قصُر، وعاقبة المشركين إلى سوءٍ مهما تمتَّعوا في هذه الحياة وطغَوا وبغَوا:
أولًا: يؤكِّد القرآن مرةً أخرى أهميةَ التحلِّي بالصبر، لكنه صبرٌ مقرُونٌ بالثقة المُطلَقة بوعد الله: ﴿فَٱصۡبِرۡ إِنَّ وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقࣱّۚ فَإِمَّا نُرِیَنَّكَ بَعۡضَ ٱلَّذِی نَعِدُهُمۡ أَوۡ نَتَوَفَّیَنَّكَ فَإِلَیۡنَا یُرۡجَعُونَ﴾.
ثانيًا: يربِطُ القرآن بين هذه الدعوة المحمدية وبين الدعوات السابقة والسنن الإلهية الحاكمة لخط الدعوة في كل مراحلها الزمنية المختلفة ﴿وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا رُسُلࣰا مِّن قَبۡلِكَ مِنۡهُم مَّن قَصَصۡنَا عَلَیۡكَ وَمِنۡهُم مَّن لَّمۡ نَقۡصُصۡ عَلَیۡكَۗ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن یَأۡتِیَ بِـَٔایَةٍ إِلَّا بِإِذۡنِ ٱللَّهِۚ فَإِذَا جَاۤءَ أَمۡرُ ٱللَّهِ قُضِیَ بِٱلۡحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ ٱلۡمُبۡطِلُونَ﴾.
ثالثًا: يذكِّر القرآن بعظمة الخالق وآياته المنتشرة في هذا الكون ﴿ٱللَّهُ ٱلَّذِی جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَنۡعَـٰمَ لِتَرۡكَبُواْ مِنۡهَا وَمِنۡهَا تَأۡكُلُونَ ﴿٧٩﴾ وَلَكُمۡ فِیهَا مَنَـٰفِعُ وَلِتَبۡلُغُواْ عَلَیۡهَا حَاجَةࣰ فِی صُدُورِكُمۡ وَعَلَیۡهَا وَعَلَى ٱلۡفُلۡكِ تُحۡمَلُونَ ﴿٨٠﴾ وَیُرِیكُمۡ ءَایَـٰتِهِۦ فَأَیَّ ءَایَـٰتِ ٱللَّهِ تُنكِرُونَ﴾.
رابعًا: يذكِّر القرآن أيضًا بأحوال الأمم السابقة وتاريخ البشرية الطويل مع هذه الدعوة على اختلاف مراحلها ﴿أَفَلَمۡ یَسِیرُواْ فِی ٱلۡأَرۡضِ فَیَنظُرُواْ كَیۡفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلَّذِینَ مِن قَبۡلِهِمۡۚ كَانُوۤاْ أَكۡثَرَ مِنۡهُمۡ وَأَشَدَّ قُوَّةࣰ وَءَاثَارࣰا فِی ٱلۡأَرۡضِ فَمَاۤ أَغۡنَىٰ عَنۡهُم مَّا كَانُواْ یَكۡسِبُونَ ﴿٨٢﴾ فَلَمَّا جَاۤءَتۡهُمۡ رُسُلُهُم بِٱلۡبَیِّنَـٰتِ فَرِحُواْ بِمَا عِندَهُم مِّنَ ٱلۡعِلۡمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِۦ یَسۡتَهۡزِءُونَ ﴿٨٣﴾ فَلَمَّا رَأَوۡاْ بَأۡسَنَا قَالُوۤاْ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَحۡدَهُۥ وَكَفَرۡنَا بِمَا كُنَّا بِهِۦ مُشۡرِكِینَ ﴿٨٤﴾ فَلَمۡ یَكُ یَنفَعُهُمۡ إِیمَـٰنُهُمۡ لَمَّا رَأَوۡاْ بَأۡسَنَاۖ سُنَّتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِی قَدۡ خَلَتۡ فِی عِبَادِهِۦۖ وَخَسِرَ هُنَالِكَ ٱلۡكَـٰفِرُونَ﴾.
وفيه تأكيدٌ لوعد الله الذي لا يتخلَّف، وتأكيدٌ لسنَّة الله الماضية والتي لا تتغيَّر ولا تتبدَّل ﴿سُنَّتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِی قَدۡ خَلَتۡ فِی عِبَادِهِۦۖ وَخَسِرَ هُنَالِكَ ٱلۡكَـٰفِرُونَ﴾.


﴿فَإِمَّا نُرِیَنَّكَ بَعۡضَ ٱلَّذِی نَعِدُهُمۡ﴾ من عذاب الدنيا، وقد حصَلَ لهم ذلك في بدر وغيرها.
﴿أَوۡ نَتَوَفَّیَنَّكَ فَإِلَیۡنَا یُرۡجَعُونَ﴾ أي لو توفَّيناك قبل أن ترَى عذابَهم - والخطابُ للنبيِّ -، فالجوابُ أنهم سيرجِعُون إلى الله، وسترَى عذابَهم الأكبر، وليس معنى هذا أنهم لا يُعذَّبون في الدنيا بعد وفاته .
﴿وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا رُسُلࣰا مِّن قَبۡلِكَ مِنۡهُم مَّن قَصَصۡنَا عَلَیۡكَ وَمِنۡهُم مَّن لَّمۡ نَقۡصُصۡ عَلَیۡكَۗ﴾ فيه جوابٌ ضمنيٌّ لمن يسأل عن سرِّ وجود الأنبياء كلهم في هذه المنطقة ما بين الفُرات إلى النيل؛ إذ إنّ من الأنبياء من لم يُذكَر في القرآن الكريم، ولم تُذكَر أرض بِعثته، وفيه أيضًا تنبيهٌ لنا ألَّا نتناول أحدًا من المُصلِحين والمُؤثِّرين في العالم بسوءٍ؛ لأنه قد يكون من هؤلاء النبيين الذين لم يقصُصهم الله علينا وإن حُرِّفَت رسالاتهم، فتحريفُ الرسالة الصحيحة واردٌ، كما حُرِّفَت رسالة موسى وعيسى عليهما السلام، فالتوقُّفُ عن القول بنبُوَّتهم أو إنكارها أَولَى، والله أعلم.
﴿وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن یَأۡتِیَ بِـَٔایَةٍ إِلَّا بِإِذۡنِ ٱللَّهِۚ﴾ والآية هنا: الخارقة التي يطلبها المشركون على سبيل التحدِّي؛ فالرسول ليس هو الذي يصنع المعجزات، وإنما الله هو الذي يُجرِيها على يديه تأييدًا له، والله سبحانه هو الذي يختار المعجزة المناسبة لكل نبيٍّ وليس لمخلوقٍ في هذا شأن.
﴿وَلَكُمۡ فِیهَا مَنَـٰفِعُ﴾ غير الأكل من لحومها، والركوب على ظهورها، ففي جلودها منافع أيضًا، وفي أوبارها وأصوافها وأشعارها، وغير ذلك.
﴿كَانُوۤاْ أَكۡثَرَ مِنۡهُمۡ وَأَشَدَّ قُوَّةࣰ وَءَاثَارࣰا فِی ٱلۡأَرۡضِ﴾ أي: أن الأمم السابقة التي أهلكها الله كانوا أكثر من قريش وأقوى وأكثر عمرانًا في الأرض، وفي هذا تهديدٌ للمشركين وتخويفٌ لهم، ودفعهم إلى التفكير بما يُنجيهم من هذا الهلاك.
﴿فَلَمَّا جَاۤءَتۡهُمۡ رُسُلُهُم بِٱلۡبَیِّنَـٰتِ فَرِحُواْ بِمَا عِندَهُم مِّنَ ٱلۡعِلۡمِ﴾ أي: فرِحُوا بما عندهم فرح المغرُور المُتكبِّر حتى أعماهم هذا الفرحُ عن تلك البيِّنات.
﴿وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِۦ یَسۡتَهۡزِءُونَ﴾ أي: نزَلَ بهم العذاب الذي كانوا يُنكِرُونه ويستهزِئُون به.
﴿فَلَمَّا رَأَوۡاْ بَأۡسَنَا قَالُوۤاْ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَحۡدَهُۥ﴾ وهو البأس الذي حاقَ بالأمم السابقة؛ كالصيحة، والرجفة، ونزول هذا النوع من العذاب بعد تقدُّم الوعيد به يُلجِئُ الناسَ إلى الإيمان اضطرارًا، وهو إيمانٌ لا ينفع أصحابه؛ ولذلك ردَّ القرآن عليهم إيمانهم هذا: ﴿فَلَمۡ یَكُ یَنفَعُهُمۡ إِیمَـٰنُهُمۡ لَمَّا رَأَوۡاْ بَأۡسَنَاۖ سُنَّتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِی قَدۡ خَلَتۡ فِی عِبَادِهِۦۖ وَخَسِرَ هُنَالِكَ ٱلۡكَـٰفِرُونَ﴾.