سورة الرحمن تفسير مجالس النور الآية 1

ٱلرَّحۡمَـٰنُ ﴿١﴾

تفسير مجالس النور سورة الرحمن

المجلس الخامس والأربعون بعد المائتين: فبأي آلاء ربكما تُكذبان


سورة الرحمن


موضوع سورة الرحمن يكاد يكون مختلفًا تمامًا عن السورة التي سبقتها؛ فسورة القمر كانت وعيدًا وتهديدًا، وإنذارًا شديدًا، أمّا سورة الرحمن فهي آلاءٌ وجِنانٌ، وعينان تجرِيان، ونخلٌ ورمَّانٌ، وحُورٌ مقصُوراتٌ في الخِيام، لم يطمِثهنَّ إنسٌ قبلهم ولا جانٌّ.
إنّها السورة التي تستهلُّ باسمه تعالى الرحمن، وبهذا تتكامل هذه السورة مع سابِقَتها، ترغيبًا وترهيبًا، وتشويقًا وتخويفًا، وهكذا هي طِباع الناس يحتاجون هذه ويحتاجون تلك، وهذه الخارِطة الأساس لموضوعات هذه السورة النفيسة وبحسب تسلسُل آياتها أيضًا:
أولًا: استهلَّت السورة باسمه تعالى ﴿ٱلرَّحۡمَـٰنُ﴾؛ ليكون هذا الاسم عنوانًا للسورة، ومدخلًا لموضوعاتها، الرحمن الذي بفيُوضات رحمته نزل هذا القرآن ﴿عَلَّمَ ٱلۡقُرۡءَانَ﴾ وبفيُوضات رحمته كان هذا الخلق؛ خلق الإنسان وخلق الأكوان، ثمّ ميَّز الإنسان بالبيان، وضبط حركة الكون بتقديرٍ وحُسبان ﴿خَلَقَ ٱلۡإِنسَـٰنَ ﴿٣﴾ عَلَّمَهُ ٱلۡبَیَانَ ﴿٤﴾ ٱلشَّمۡسُ وَٱلۡقَمَرُ بِحُسۡبَانࣲ ﴿٥﴾ وَٱلنَّجۡمُ وَٱلشَّجَرُ یَسۡجُدَانِ﴾.
ثانيًا: بعد هذا الاستِهلال الودود، نوَّهت السورة بقيمة العدل التي تقوم بها حركةُ الكون، وتقوم عليها حياة الإنسان ﴿وَٱلسَّمَاۤءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ ٱلۡمِیزَانَ ﴿٧﴾ أَلَّا تَطۡغَوۡاْ فِی ٱلۡمِیزَانِ ﴿٨﴾ وَأَقِیمُواْ ٱلۡوَزۡنَ بِٱلۡقِسۡطِ وَلَا تُخۡسِرُواْ ٱلۡمِیزَانَ﴾.
ثالثًا: ثم التفَتَت السورة إلى آثار رحمة الله في هذه الأرض، وما أودع فيها من أسباب الرزق والنعمة ﴿وَٱلۡأَرۡضَ وَضَعَهَا لِلۡأَنَامِ ﴿١٠﴾ فِیهَا فَـٰكِهَةࣱ وَٱلنَّخۡلُ ذَاتُ ٱلۡأَكۡمَامِ ﴿١١﴾ وَٱلۡحَبُّ ذُو ٱلۡعَصۡفِ وَٱلرَّیۡحَانُ ﴿١٢﴾ فَبِأَیِّ ءَالَاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾.
رابعًا: ثم عادَت لتُذكِّر بخلق الإنسان مقارنةً له بخلق الجان ﴿خَلَقَ ٱلۡإِنسَـٰنَ مِن صَلۡصَـٰلࣲ كَٱلۡفَخَّارِ ﴿١٤﴾ وَخَلَقَ ٱلۡجَاۤنَّ مِن مَّارِجࣲ مِّن نَّارࣲ ﴿١٥﴾ فَبِأَیِّ ءَالَاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾.
خامسًا: ثمّ نبَّهَت إلى آثار قدرة الله ورحمته وربوبيَّته لهذا الكون، وما فيه من ناموسٍ ونظامٍ بديعٍ ﴿رَبُّ ٱلۡمَشۡرِقَیۡنِ وَرَبُّ ٱلۡمَغۡرِبَیۡنِ ﴿١٧﴾ فَبِأَیِّ ءَالَاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴿١٨﴾ مَرَجَ ٱلۡبَحۡرَیۡنِ یَلۡتَقِیَانِ ﴿١٩﴾ بَیۡنَهُمَا بَرۡزَخࣱ لَّا یَبۡغِیَانِ ﴿٢٠﴾ فَبِأَیِّ ءَالَاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴿٢١﴾ یَخۡرُجُ مِنۡهُمَا ٱللُّؤۡلُؤُ وَٱلۡمَرۡجَانُ ﴿٢٢﴾ یَخۡرُجُ مِنۡهُمَا ٱللُّؤۡلُؤُ وَٱلۡمَرۡجَانُ ﴿٢٣﴾ وَلَهُ ٱلۡجَوَارِ ٱلۡمُنشَـَٔاتُ فِی ٱلۡبَحۡرِ كَٱلۡأَعۡلَـٰمِ ﴿٢٤﴾ فَبِأَیِّ ءَالَاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾.
سادسًا: بعد التنويه بدقة الخلق وما فيها من إتقانٍ وإحسانٍ، ولكي لا يتوهَّم مُتوهِّم أنّ الخلق باقٍ وأنّ الإنسان سيستقرُّ في هذه الحياة، راحَت السورة تُواجِه الناس بالحقيقة التي تنتظرهم جميعًا: ﴿كُلُّ مَنۡ عَلَیۡهَا فَانࣲ ﴿٢٦﴾ وَیَبۡقَىٰ وَجۡهُ رَبِّكَ ذُو ٱلۡجَلَـٰلِ وَٱلۡإِكۡرَامِ ﴿٢٧﴾ فَبِأَیِّ ءَالَاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾.
سابعًا: هذه الحقيقة تكشِف أنّ الإنسان لا يستقلُّ بنفسه والخلق كلّه كذلك، بل كلّ ما في الوجود مُفتقِرٌ إليه سبحانه في كلِّ حاجاته ومتطلّبات حياته ﴿یَسۡـَٔلُهُۥ مَن فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضِۚ كُلَّ یَوۡمٍ هُوَ فِی شَأۡنࣲ ﴿٢٩﴾ یَسۡـَٔلُهُۥ مَن فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضِۚ كُلَّ یَوۡمٍ هُوَ فِی شَأۡنࣲ﴾.
ثامنًا: تُفصِّلُ السورة ما أجمَلَتْه آنفًا من حقيقة الفناء، واليوم الذي ستنتهي فيه هذه الحياة ﴿یَسۡـَٔلُهُۥ مَن فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضِۚ كُلَّ یَوۡمٍ هُوَ فِی شَأۡنࣲ ﴿٣١﴾ فَبِأَیِّ ءَالَاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴿٣٢﴾ یَـٰمَعۡشَرَ ٱلۡجِنِّ وَٱلۡإِنسِ إِنِ ٱسۡتَطَعۡتُمۡ أَن تَنفُذُواْ مِنۡ أَقۡطَارِ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضِ فَٱنفُذُواْۚ لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلۡطَـٰنࣲ ﴿٣٣﴾ فَبِأَیِّ ءَالَاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴿٣٤﴾ یُرۡسَلُ عَلَیۡكُمَا شُوَاظࣱ مِّن نَّارࣲ وَنُحَاسࣱ فَلَا تَنتَصِرَانِ ﴿٣٥﴾ فَبِأَیِّ ءَالَاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴿٣٦﴾ فَإِذَا ٱنشَقَّتِ ٱلسَّمَاۤءُ فَكَانَتۡ وَرۡدَةࣰ كَٱلدِّهَانِ ﴿٣٧﴾ فَبِأَیِّ ءَالَاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴿٣٨﴾ فَیَوۡمَىِٕذࣲ لَّا یُسۡـَٔلُ عَن ذَنۢبِهِۦۤ إِنسࣱ وَلَا جَاۤنࣱّ ﴿٣٩﴾ فَبِأَیِّ ءَالَاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾.
تاسعًا: آنذاك سيلقى المجرمون جزاءهم ﴿یُعۡرَفُ ٱلۡمُجۡرِمُونَ بِسِیمَـٰهُمۡ فَیُؤۡخَذُ بِٱلنَّوَ ٰ⁠صِی وَٱلۡأَقۡدَامِ ﴿٤١﴾ فَبِأَیِّ ءَالَاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴿٤٢﴾ هَـٰذِهِۦ جَهَنَّمُ ٱلَّتِی یُكَذِّبُ بِهَا ٱلۡمُجۡرِمُونَ ﴿٤٣﴾ یَطُوفُونَ بَیۡنَهَا وَبَیۡنَ حَمِیمٍ ءَانࣲ ﴿٤٤﴾ فَبِأَیِّ ءَالَاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾.
عاشرًا: أمَّا المؤمنون المُتَّقون فهم على مستويَين من النعيم: المستوى الأعلى للمُحسنين الذين عرفوا مقام ربّهم، فخافوه وعبَدُوه حقّ عبادته ﴿وَلِمَنۡ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِۦ جَنَّتَانِ ﴿٤٦﴾ فَبِأَیِّ ءَالَاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴿٤٧﴾ ذَوَاتَاۤ أَفۡنَانࣲ ﴿٤٨﴾ فَبِأَیِّ ءَالَاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴿٤٩﴾ فِیهِمَا عَیۡنَانِ تَجۡرِیَانِ ﴿٥٠﴾ فَبِأَیِّ ءَالَاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴿٥١﴾ فِیهِمَا مِن كُلِّ فَـٰكِهَةࣲ زَوۡجَانِ ﴿٥٢﴾ فَبِأَیِّ ءَالَاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴿٥٣﴾ مُتَّكِـِٔینَ عَلَىٰ فُرُشِۭ بَطَاۤىِٕنُهَا مِنۡ إِسۡتَبۡرَقࣲۚ وَجَنَى ٱلۡجَنَّتَیۡنِ دَانࣲ ﴿٥٤﴾ فَبِأَیِّ ءَالَاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴿٥٥﴾ فِیهِنَّ قَـٰصِرَ ٰ⁠تُ ٱلطَّرۡفِ لَمۡ یَطۡمِثۡهُنَّ إِنسࣱ قَبۡلَهُمۡ وَلَا جَاۤنࣱّ ﴿٥٦﴾ فَبِأَیِّ ءَالَاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴿٥٧﴾ كَأَنَّهُنَّ ٱلۡیَاقُوتُ وَٱلۡمَرۡجَانُ ﴿٥٨﴾ فَبِأَیِّ ءَالَاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴿٥٩﴾ هَلۡ جَزَاۤءُ ٱلۡإِحۡسَـٰنِ إِلَّا ٱلۡإِحۡسَـٰنُ ﴿٦٠﴾ فَبِأَیِّ ءَالَاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾.
حادي عشر: أمَّا المستوى الثاني من النعيم فهو لعامَّة أهل الجنّة مِمَّن نجَّاهم الله من النار ﴿وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ ﴿٦٢﴾ فَبِأَیِّ ءَالَاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴿٦٣﴾ مُدۡهَاۤمَّتَانِ ﴿٦٤﴾ فَبِأَیِّ ءَالَاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴿٦٥﴾ فِیهِمَا عَیۡنَانِ نَضَّاخَتَانِ ﴿٦٦﴾ فَبِأَیِّ ءَالَاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴿٦٧﴾ فِیهِمَا فَـٰكِهَةࣱ وَنَخۡلࣱ وَرُمَّانࣱ ﴿٦٨﴾ فَبِأَیِّ ءَالَاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴿٦٩﴾ فِیهِنَّ خَیۡرَ ٰ⁠تٌ حِسَانࣱ ﴿٧٠﴾ فَبِأَیِّ ءَالَاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴿٧١﴾ حُورࣱ مَّقۡصُورَ ٰ⁠تࣱ فِی ٱلۡخِیَامِ ﴿٧٢﴾ فَبِأَیِّ ءَالَاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴿٧٣﴾ لَمۡ یَطۡمِثۡهُنَّ إِنسࣱ قَبۡلَهُمۡ وَلَا جَاۤنࣱّ ﴿٧٤﴾ فَبِأَیِّ ءَالَاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴿٧٥﴾ مُتَّكِـِٔینَ عَلَىٰ رَفۡرَفٍ خُضۡرࣲ وَعَبۡقَرِیٍّ حِسَانࣲ ﴿٧٦﴾ فَبِأَیِّ ءَالَاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴿٧٧﴾.
ثاني عشر: في الآية الأخيرة من السورة يُمجِّد الله اسمه الكريم ﴿تَبَـٰرَكَ ٱسۡمُ رَبِّكَ ذِی ٱلۡجَلَـٰلِ وَٱلۡإِكۡرَامِ﴾ فكأنَّ السورة قد اختتمَت بما ابتدأَت به، والله أعلم، وهو بنا أرحم.


﴿ٱلرَّحۡمَـٰنُ ﴿١﴾ عَلَّمَ ٱلۡقُرۡءَانَ ﴿٢﴾ خَلَقَ ٱلۡإِنسَـٰنَ ﴿٣﴾ عَلَّمَهُ ٱلۡبَیَانَ ﴿٤﴾ تنبيهٌ إلى الصِّلَة الوَثِيقة بين القرآن وبين الرحمة التي هي صِفةُ الرحمن، وبين البيان الذي هو ميزَةُ الإنسان، وبه يفهَمُ القرآن، فهذه منظومة من القِيَم؛ دينٌ مُنبَثِق من الرحمة، وعِلمٌ صحيحٌ قادرٌ على أن يفهَمَ الدِّينَ ويُترجِمَه في حياته، فإذا ابتعد الدينُ عن الرحمة، كان دينًا مُشوَّهًا ومُؤذيًا، وإذا ابتعد العلمُ عن الدين، صار عِلمًا يخدم الأقوياء، ويمدُّهم بأسباب الكبرياء وإذلال الضعفاء.
﴿ٱلشَّمۡسُ وَٱلۡقَمَرُ بِحُسۡبَانࣲ﴾ بحسابٍ دقيقٍ، وهذا الحساب ينعكس في حياة الناس؛ فيَعرِفون به يومَهم وشهرَهم وعامَهم، ويعرفون به صيفهم وشتاءهم، وهذا الحساب الدقيق في ضبط المسافات مع الأرض تُبنَى عليه ضرورات الحياة في الحرارة والأشعة وتكوين السُّحب وما إلى ذلك.
﴿وَٱلنَّجۡمُ وَٱلشَّجَرُ یَسۡجُدَانِ﴾ أي: يسجُد لله ما في السماء وما في الأرض، ثم مثَّلَ للسماء بنجمها، وللأرض بشجرها، وهذا أَولَى من تفسيرهما بنوعَين من النبات؛ ما له ساق، وما ليس له ساق؛ وذلك لأنّ النجم المتبادر للذهن في لغة العرب هو نجم السماء، ولِوُرودِ هذا المعنى في آية أخرى: ﴿أَلَمۡ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ یَسۡجُدُ لَهُۥ مَن فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَمَن فِی ٱلۡأَرۡضِ وَٱلشَّمۡسُ وَٱلۡقَمَرُ وَٱلنُّجُومُ وَٱلۡجِبَالُ وَٱلشَّجَرُ وَٱلدَّوَاۤبُّ﴾ [الحج: 18].
والمقصود بالسجود هنا هو: السجود القدري، والذي يعني: الخضوعَ التامَّ للنظام الذي وضَعَه الله في هذا الكون، فهو ليس سجودًا تكليفيًّا يُبنَى عليه ثوابٌ وعقابٌ، بل هو سنَّةٌ كونيَّةٌ، وآيةٌ إيمانيَّةٌ، وعِبرةٌ لأُولِي الألباب.
﴿وَٱلسَّمَاۤءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ ٱلۡمِیزَانَ﴾ قرَنَ رفع السماء بوضع الميزان الذي هو رمز العدل؛ إعلاءً من شأن هذه القيمة العظيمة التي لا تقوم الحياة إلَّا بها.
﴿وَأَقِیمُواْ ٱلۡوَزۡنَ بِٱلۡقِسۡطِ وَلَا تُخۡسِرُواْ ٱلۡمِیزَانَ﴾ هذه وصيَّةُ الله للبشر أن يُقيموا العدل فيما بينهم، كما أقامَه الله في السماء، وجعَلَه أساسًا في هذا الخلق.
﴿وَٱلۡأَرۡضَ وَضَعَهَا لِلۡأَنَامِ﴾ أي: مهَّدَها لهم وجعَلَها صالحةً لعيشهم، والأنام جمع لا مفرد له، ويُطلَق على الناس كافة، وقد يُطلَق على كلِّ الخلائق التي تعيش على الأرض على اختلاف أجناسها وألوانها.
﴿وَٱلنَّخۡلُ ذَاتُ ٱلۡأَكۡمَامِ﴾ الطلعُ المحفوظُ بأكمامه.
﴿وَٱلۡحَبُّ ذُو ٱلۡعَصۡفِ﴾ العصفُ: السنابل التي تخرج مع حبوب القمح والشعير ونحوهما، ثم يعصف بها بعد اكتمال الحب فتكون تِبنًا، والعصف للحبِّ كالأكمام للطلع.
﴿وَٱلرَّیۡحَانُ﴾ نبات له رائحة زكيّة.
﴿فَبِأَیِّ ءَالَاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ هذه الآية من خصائص هذه السورة العزيزة، والخطاب مُوجَّه لفريقَين مُختلفَين جِنسًا، وهما: الإنس والجن، وهذا هو الأظهر؛ لتكرار ذِكر الجن مع الإنس فيها، أو مُختلفَين دينًا، وهما: المؤمنون والكافرون، وقد رجَّحَه الطاهرُ بن عاشور في تفسيره، والسياق بخلافه؛ إذ لم يرِد في السورة ذِكرُ الكافرين في مُقابل المؤمنين، كما أنّه ليس معهودًا في القرآن جَمعُ المؤمنين مع الكافرين في ضميرٍ واحدٍ، وأما الآلاء فهي: النِّعَم، وهي كذلك الدلائلُ على وجود الخالِق المُنعِم تبارك وتعالى.
﴿خَلَقَ ٱلۡإِنسَـٰنَ مِن صَلۡصَـٰلࣲ كَٱلۡفَخَّارِ﴾ الصلصال: الطين اليابس الناعم أو الأملس الصقيل، والفخار معروف.
﴿وَخَلَقَ ٱلۡجَاۤنَّ مِن مَّارِجࣲ مِّن نَّارࣲ﴾ مارِج النار: لهَبُه المختلط بدخان النار أو نحوه.
﴿رَبُّ ٱلۡمَشۡرِقَیۡنِ وَرَبُّ ٱلۡمَغۡرِبَیۡنِ﴾ هذه أبعاد مُختلفة؛ فما بين المشرقَين يشمل: جهةَ المشرق من أقصى شمالها إلى أقصى جنوبها، والمغرب كذلك، ثم يأتي البُعد الثالث ليشمل ما بين كلّ جهة الشرق وكلّ جهة الغرب؛ فيكون معنى الآية أنّ الله هو ربُّ الأرض كلّها بكلِّ جهاتها وأبعادها، والله أعلم.
﴿مَرَجَ ٱلۡبَحۡرَیۡنِ یَلۡتَقِیَانِ﴾ خلَطَهما، وهذا مُشاهَدٌ بتدفُّق الأنهار العَذْبة في البحار المالحة، دون أن تتغيَّر الأنهار ولا البحار؛ لأنّ المَرج في نقطة الالتقاء وهي مسافة محدودة؛ ولذلك قال بعدها: ﴿بَیۡنَهُمَا بَرۡزَخࣱ لَّا یَبۡغِیَانِ﴾ أي: لا يطغَى أحدُهما على الآخر، ولا يمحو أحدُهما الآخر.
﴿یَخۡرُجُ مِنۡهُمَا ٱللُّؤۡلُؤُ وَٱلۡمَرۡجَانُ﴾ وهما من أنواع الحُليِّ، والتنويهُ بهما تنويهٌ لقيمة التزيُّن، وهي قيمةٌ معتبرةٌ في الشرع، ومثلها التطيُّب.
﴿وَلَهُ ٱلۡجَوَارِ ٱلۡمُنشَـَٔاتُ فِی ٱلۡبَحۡرِ كَٱلۡأَعۡلَـٰمِ﴾ أي: السفن التي تجري في البحار، والمنشآت أي: أنشأها الناس مما خلقه الله لهم من شجرٍ ونحوه، والأعلام: الجبال، إشارة إلى عِظَمها وارتفاعها، وقد كانت تبدو كذلك بأشرِعَتها الضخمة والعالية، وهي اليوم أقربُ لهذا الوصف، كما هو معلومٌ ومُشاهَد.
﴿كُلُّ مَنۡ عَلَیۡهَا فَانࣲ﴾ أي: كلُّ حيٍّ على الأرض يموت، وكلُّ موجودٍ عليها يَبلَى.
﴿وَیَبۡقَىٰ وَجۡهُ رَبِّكَ ذُو ٱلۡجَلَـٰلِ وَٱلۡإِكۡرَامِ﴾ أي: ويبقى ربُّك، ودلالة الوجه على الذات معروفة وشائعة في لسان العرب، وهناك قرينةٌ في الآية نفسها؛ إذ وصف الوجه بما يصِف به الربّ فقال: ﴿ذُو ٱلۡجَلَـٰلِ وَٱلۡإِكۡرَامِ﴾، وذو الجلال والإكرام هو الله، وقد وصف الله به نفسه في آخر السورة فقال: ﴿تَبَـٰرَكَ ٱسۡمُ رَبِّكَ ذِی ٱلۡجَلَـٰلِ وَٱلۡإِكۡرَامِ﴾ فجعله وَصفًا للربِّ وليس للاسم، والله أعلم.
﴿یَسۡـَٔلُهُۥ مَن فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضِۚ﴾ سؤال المُحتاج واقِعًا أو حكمًا؛ فما مِن أحدٍ من الخلق يستقل بنفسه، حتى الكافر المُعاند يسأل الله بفِطرته وطبيعة تكوينه مهما كابَرَ وعانَدَ، أمّا في الآخرة فلا يسَع أحدًا كِبْرٌ ولا عناد.
﴿كُلَّ یَوۡمٍ هُوَ فِی شَأۡنࣲ﴾ لأنّه سبحانه هو الذي يُدبِّر أمر هذا الخلق، ففي كلِّ يومٍ له ـ تدبيرٌ وخلقٌ ورزقٌ، وإحياءٌ وإماتةٌ، ورفعٌ وخفضٌ، وما إلى ذلك.
﴿سَنَفۡرُغُ لَكُمۡ أَیُّهَ ٱلثَّقَلَانِ﴾ أي: سنُقبِلُ عليكم بالحساب إقبالَ من ليس له شغلٌ غيركم، والله سبحانه لا يشغَله شيءٌ عن شيءٍ، وإنَّما هو التمثيل بما هو مألوفٌ من حياة الناس، والثَّقَلان: الإنس والجن.
﴿یَـٰمَعۡشَرَ ٱلۡجِنِّ وَٱلۡإِنسِ إِنِ ٱسۡتَطَعۡتُمۡ أَن تَنفُذُواْ مِنۡ أَقۡطَارِ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضِ فَٱنفُذُواْۚ لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلۡطَـٰنࣲ﴾ هذا خطاب الله لمعشرِ الجنِّ والإنس، والمقصود به طغاتهم؛ لأنّه مُتضمّنٌ الوعيد والتهديد؛ فالله يتحدَّى هؤلاء أن يهربوا من قضاء الله وحكمه، والسياق يرجّح أنّ هذا في الآخرة؛ لأنّه عقّب بقوله: ﴿یُرۡسَلُ عَلَیۡكُمَا شُوَاظࣱ مِّن نَّارࣲ وَنُحَاسࣱ فَلَا تَنتَصِرَانِ﴾ فجهنّم تطلبهم وهي محيطةٌ بهم.
وأمّا الاستثناء الوارد: ﴿إِلَّا بِسُلۡطَـٰنࣲ﴾ فهو على سبيل التعجيز، فأيُّ سلطان عند هؤلاء المساكين يَقِيهم من سُلطان الله، ويُمكِّنهم من أن يخرُجُوا عن مُلكِه وحُكمِه؟
﴿فَإِذَا ٱنشَقَّتِ ٱلسَّمَاۤءُ فَكَانَتۡ وَرۡدَةࣰ كَٱلدِّهَانِ﴾ هذه من أحوال الآخرة؛ حيث تتشقَّق السماء كما تتشقَّق الوردة الرقيقة بطَبَقَاتها المختلفة، وينقَلِب لونُها إلى اللون الأحمر الذي هو لون الورد، فكأنّها صُبِغَت بلونه، والدهان يُطلَق على الصَّبغ والزيت وكلّ ما يُطلَى به.
﴿فَیَوۡمَىِٕذࣲ لَّا یُسۡـَٔلُ عَن ذَنۢبِهِۦۤ إِنسࣱ وَلَا جَاۤنࣱّ﴾ أي: في ذلك الموقف من مواقف الآخرة، وليس فيه نفيٌ للسؤال والحساب؛ لأنّ أيَّام الآخرة كثيرة وطويلة، ومواقفها متنوعة، وأحوالها مختلفة، ولكلِّ يومٍ شغله ووظيفته، فما نُفِيَ في هذا اليوم قد يكون في يوم آخر.
﴿یُعۡرَفُ ٱلۡمُجۡرِمُونَ بِسِیمَـٰهُمۡ﴾ تعرِفهم الملائكة بصفاتهم الظاهرة عليهم، والتي تميّزهم عن المؤمنين.
﴿فَیُؤۡخَذُ بِٱلنَّوَ ٰ⁠صِی وَٱلۡأَقۡدَامِ﴾ أي: تأخذهم الملائكة فتجمع نواصِيهم مع أقدامهم وترمِيهم في جهنّم، وهذه هيئةٌ مُهينةٌ ذليلةٌ تُناسِب ما كانوا عليه من العناد والكبر.
﴿یَطُوفُونَ بَیۡنَهَا وَبَیۡنَ حَمِیمٍ ءَانࣲ﴾ أي: يتردَّدون بين مكان النار وبين مكان الماء المغلِي، أو يتردَّدون بين هذا وهذا تردُّدًا في اختلاف الأحوال وليس في اختلاف الأماكن، و﴿ءَانࣲ﴾ الماء الذي اشتدَّت حرارته.
﴿وَلِمَنۡ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِۦ جَنَّتَانِ﴾ إشارة إلى معرفة هؤلاء الصفوة بمقام ربِّهم وما يجب في حقِّه سبحانه، بخلاف المؤمنين المُقلّدين بإيمانهم الذين يؤمنون بالله إيمانًا إجماليًّا.
﴿ذَوَاتَاۤ أَفۡنَانࣲ﴾أي: ذواتا أغصانٍ كثيرةٍ، كناية عن كثرة أشجارهما.
﴿بَطَاۤىِٕنُهَا مِنۡ إِسۡتَبۡرَقࣲۚ﴾ وهو الحرير السميك الغليظ.
﴿وَجَنَى ٱلۡجَنَّتَیۡنِ دَانࣲ﴾ أي: ثمر الجنَّتَين قريبٌ منهم وفي مُتناول أيديهم.
﴿فِیهِنَّ قَـٰصِرَ ٰ⁠تُ ٱلطَّرۡفِ﴾ الحُور العين، وقصرُ الطرف كنايةٌ عن الحياء والرقَّة.
﴿لَمۡ یَطۡمِثۡهُنَّ إِنسࣱ قَبۡلَهُمۡ وَلَا جَاۤنࣱّ﴾ أي: لم يمسهنّ إنسٌ ولا جانٌّ؛ إذ لم يكن لهنّ من قبلُ أزواج.
﴿كَأَنَّهُنَّ ٱلۡیَاقُوتُ وَٱلۡمَرۡجَانُ﴾ وصف لجمالهِنَّ وصفائهِنَّ.
﴿هَلۡ جَزَاۤءُ ٱلۡإِحۡسَـٰنِ إِلَّا ٱلۡإِحۡسَـٰنُ﴾ أي: كلّ هذا الذي في الجنّتين إنّما هو ثوابٌ للذين أحسَنوا في حياتهم الدنيا، وفيه تأكيدٌ للعدل الإلهي؛ إذ هذا جزاء العمل والجهد الذي يتفاوت فيه الناس ويتنافسون، بخلاف ما لو كان على أساس الجنس واللون والحسب والنسب.
﴿وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ﴾ هاتان جنتان أُخريان، دون الجنَّتَين السابقتين.
﴿مُدۡهَاۤمَّتَانِ﴾ أي: عَلَتْهُما دُهْمة من كثافة ظلِّ الشجر فيهما، والدُّهمة: سوادُ الظلِّ الكثيف.
﴿فِیهِمَا عَیۡنَانِ نَضَّاخَتَانِ﴾ أي: فوّارتان بالماء.
﴿فِیهِمَا فَـٰكِهَةࣱ وَنَخۡلࣱ وَرُمَّانࣱ﴾ دليل أنّ هاتَين الجنَّتَين دون الأُولَيَين في الرتبة؛ لأنّه في الأولَيَين قال: ﴿فِیهِمَا مِن كُلِّ فَـٰكِهَةࣲ زَوۡجَانِ﴾.
﴿فِیهِنَّ خَیۡرَ ٰ⁠تٌ حِسَانࣱ﴾ عَدَل من المُثنَّى إلى الجمع؛ إشارة إلى أنّ الصفات الآتية تشترك فيها الجِنان الأربع.
﴿حُورࣱ مَّقۡصُورَ ٰ⁠تࣱ فِی ٱلۡخِیَامِ﴾ تفسيرٌ للخيرات الحسان، أو تمثيلٌ لها، و﴿مَّقۡصُورَ ٰ⁠تࣱ فِی ٱلۡخِیَامِ﴾ أي: مقصُوراتٌ في بيوت أزواجهنَّ، ولا يتشوَّفن لغيرهم.
﴿مُتَّكِـِٔینَ عَلَىٰ رَفۡرَفٍ خُضۡرࣲ﴾ على وسائدٍ خضر، والخضرة لون يسرُّ الناظر.
﴿وَعَبۡقَرِیٍّ حِسَانࣲ﴾ فُرُش نفيسة وحسناء، والعبقري: النادر المتميِّز من كلِّ شيءٍ.
﴿تَبَـٰرَكَ ٱسۡمُ رَبِّكَ ذِی ٱلۡجَلَـٰلِ وَٱلۡإِكۡرَامِ﴾ أشار بالاسم إلى اسمه: ﴿ٱلرَّحۡمَـٰنُ﴾ الذي استهلَّت به السورة، والله أعلم.