سورة البلد تفسير مجالس النور الآية 2

وَأَنتَ حِلُّۢ بِهَـٰذَا ٱلۡبَلَدِ ﴿٢﴾

تفسير مجالس النور سورة البلد

المجلس الرابع والثمانون بعد المائتين: لقد خلقنا الإنسان في كبَد


سورة البلد


تتناول هذه السورة حياة الإنسان ومُكابدته فيها، وما ينتظره بعدها، فتُرشِده إلى طريق سعادته، وتحذِّره من أسباب شقاوَته، مع تأكيد الصلة بين الإيمان بالله وعبادته وحده، وبين الإحسان إلى الخلق والرحمة بهم، وكما يأتي:
أولًا: يُقسِمُ الله ـ قَسَمًا مُؤكَّدًا بمكَّة شرَّفَها الله، مع التنويهِ إلى مقام النبيِّ الكريم فيها، وقد زادَها هذا المقام شرفًا على شرفها، وبركةً على بركتها، ثم يُقسِمُ تعالى بخلق هذا الإنسان وتوالُده جِيلًا عن جيلٍ، إشارة إلى قُدرته سبحانه وحكمته في استمرار الخلق، وتمهيدًا لجوابِ القَسَم المُتعلِّق بحياة هذا الإنسان وطبيعتها والغاية منها ﴿لَاۤ أُقۡسِمُ بِهَـٰذَا ٱلۡبَلَدِ ﴿١﴾ وَأَنتَ حِلُّۢ بِهَـٰذَا ٱلۡبَلَدِ ﴿٢﴾ وَوَالِدࣲ وَمَا وَلَدَ﴾.
ثانيًا: أمَّا جوابُ القَسَم فهو قوله تعالى: ﴿لَقَدۡ خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَـٰنَ فِی كَبَدٍ﴾ فالإنسان كُتِبَ عليه أن يعيش في هذه الدنيا حياة الكدِّ والتعبِ؛ إذ الدنيا كلها ليست دار مقرٍّ، بل هي دار امتحانٍ واختبارٍ، وكفى بهذا مُكابدة.
وإنَّما غاية الرسالات ليس بقلب الدنيا إلى شيءٍ آخر، بل تنبيه الناس إلى حقيقتها، وإعداد العُدّة للنجاح في اختبارها، ولا شكَّ أنَّ الإيمان بهذه الغاية يجعل الإنسان أكثرَ طمأنينة، وأقدَرَ على تحمُّل المسؤوليَّة، وأقلّ طمعًا في المنافسة على متاعها الرخيص، وأكثرَ رحمة بالآخرين، وهكذا تكون الرسالات سببًا في تخفيف هذا الكبد، والتقليل من آثاره السيئة، مع الدفع نحو السعادة الأخرويَّة التي لا يشوبها كدَر، ولا يُنغِّصُها كَبَد.
ثالثًا: أمَّا الذي لا يتّصلُّ بنور هذه الرسالات فإنَّه سيُهلِك نفسَه في جمع حُطام الدنيا، ثم في تبذيره على شهواته بلا غايةٍ ولا حكمةٍ؛ لأنَّه لا يؤمِنُ بإلهٍ قادرٍ عليه يُراقبه ويُحاسبه، فهو لا يؤمن إلَّا بحياته المحدودة، ولا يرى شيئًا فوقها، ولا شيئًا بعدها ﴿أَیَحۡسَبُ أَن لَّن یَقۡدِرَ عَلَیۡهِ أَحَدࣱ﴾.
وهو لو فكّر قليلًا، لعلِم أنَّ في عينيه اللتَين يبصِر بهما آية على وجود الله وقدرته عليه، وكذلك في لسانه هذا الذي هو قطعة من اللحم لكنَّه يتكلَّم ويتذوَّق، وفي شفتَيه كذلك، وأكبر من ذلك: هذا العقل الذي يُدرِكُ به الأشياء، ويُميِّزُ به بين ما ينفعه وما يضرُّه، بين طريق السعادة وطريق الشقاء لو كان يُعمِل عقله ﴿یَقُولُ أَهۡلَكۡتُ مَالࣰا لُّبَدًا ﴿٦﴾ أَیَحۡسَبُ أَن لَّمۡ یَرَهُۥۤ أَحَدٌ ﴿٧﴾ أَلَمۡ نَجۡعَل لَّهُۥ عَیۡنَیۡنِ ﴿٨﴾ وَلِسَانࣰا وَشَفَتَیۡنِ ﴿٩﴾ وَهَدَیۡنَـٰهُ ٱلنَّجۡدَیۡنِ﴾.
رابعًا: تُعبِّرُ السورة عن غاية هذه الحياة ونهايتها الحتميَّة التي ينبغي على كلِّ مُكلَّفٍ أن يجتازها ليصِلَ إلى برِّ الأمان، وهذا هو الامتحان ﴿فَلَا ٱقۡتَحَمَ ٱلۡعَقَبَةَ ﴿١١﴾ وَمَاۤ أَدۡرَىٰكَ مَا ٱلۡعَقَبَةُ ﴿١٢﴾ فَكُّ رَقَبَةٍ ﴿١٣﴾ أَوۡ إِطۡعَـٰمࣱ فِی یَوۡمࣲ ذِی مَسۡغَبَةࣲ ﴿١٤﴾ یَتِیمࣰا ذَا مَقۡرَبَةٍ ﴿١٥﴾ أَوۡ مِسۡكِینࣰا ذَا مَتۡرَبَةࣲ ﴿١٦﴾ ثُمَّ كَانَ مِنَ ٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ وَتَوَاصَوۡاْ بِٱلصَّبۡرِ وَتَوَاصَوۡاْ بِٱلۡمَرۡحَمَةِ ﴿١٧﴾ أُوْلَــٰۤىِٕكَ أَصۡحَـٰبُ ٱلۡمَیۡمَنَةِ﴾.
والملاحظ هنا أنَّ شروط الاجتياز قد جَمَعَت بين الإحسان إلى الخلق بعِتق العبيد، وإطعام اليتيم والمسكين، والأخلاق الفاضلة؛ كالصبر والمرحمة، وبين الإيمان بالله، وهذه منهجيَّة قرآنيَّة عامة ومؤكّدة؛ فالإيمان بالله لا ينفصِل عن الأخلاق، وحقّ الله لا ينفصِل عن حقّ العباد، أمّا الذي يفشل في تحقيق هذه الشروط فإنّه لن يجتاز العقبة، وسيلقَى مصيرًا آخر لا تُحمد عُقباه ﴿وَٱلَّذِینَ كَفَرُواْ بِـَٔایَـٰتِنَا هُمۡ أَصۡحَـٰبُ ٱلۡمَشۡـَٔمَةِ ﴿١٩﴾ عَلَیۡهِمۡ نَارࣱ مُّؤۡصَدَةُۢ﴾.


﴿لَاۤ أُقۡسِمُ بِهَـٰذَا ٱلۡبَلَدِ﴾ هذه صيغةٌ معهودةٌ من صيغ القسَم المؤكَّد، والبلد المُقسَم به هو مكَّة شرفها الله.
﴿وَأَنتَ حِلُّۢ بِهَـٰذَا ٱلۡبَلَدِ﴾ أي: وأنت يا محمد مُقيمٌ في هذا البلد، فبِك زاد الله هذا البلد تشريفًا وتعظيمًا، وفيه أنَّ هذه الرسالة المحمَّديَّة مُرتبطة ارتباط هويَّةٍ وانتماءٍ بهذه البقعة المباركة.
﴿وَوَالِدࣲ وَمَا وَلَدَ﴾ هذا القسَم يُشير إلى سنّة الله في هذا الخلق؛ فكلّ إنسانٍ هو مولودٌ وله والِد، والحياة في الحقيقة ليست سِوَى هذا؛ والدٌ ومولودٌ، أجيالٌ تمضي وأجيالٌ تأتي، وفائدة هذا القسَم - مع التنبيه إلى سُنَّة الله هذه وقدرته - أنَّه يُمهِّد للمقسَم عليه، وهو جواب القسم الآتي.
﴿لَقَدۡ خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَـٰنَ فِی كَبَدٍ﴾ أي: يحيَا حياته الدنيا في تعبٍ ومشقَّةٍ.
﴿أَیَحۡسَبُ﴾ ذلك الإنسان الغافل المُنهمِك في متاعه الزائل وشهواته ﴿أَن لَّن یَقۡدِرَ عَلَیۡهِ أَحَدࣱ﴾
﴿یَقُولُ أَهۡلَكۡتُ مَالࣰا لُّبَدًا﴾ أي: يُفاخِر بكدِّهِ وتعَبهِ الذي جمَعَ به مالًا كثيرًا ثم أنفَقَه على نفسه، و﴿لُّبَدًا﴾ أي: مُتلبِّدًا بعضُه فوق بعض، والمقصود به الكثرة.
﴿أَیَحۡسَبُ أَن لَّمۡ یَرَهُۥۤ أَحَدٌ﴾ هذا لومٌ وتقريعٌ لكلِّ مَن يبذِّر ماله في غير مصلحةٍ دون حسابٍ ليوم الحساب، ولا أداء لحقِّ الله، أو حقِّ عباده.
﴿وَهَدَیۡنَـٰهُ ٱلنَّجۡدَیۡنِ﴾ أي: أعطَيناه العقل الذي يُميِّزُ به بين النافع والضار، وبين طريق النجاة وطريق الهلاك، ومعنى النجدَين: الطريقَين.
﴿فَلَا ٱقۡتَحَمَ ٱلۡعَقَبَةَ﴾ أي: لم يُفلِح في اجتياز الحائل الذي يحُول بينه وبين سعادته الأبديَّة.
﴿وَمَاۤ أَدۡرَىٰكَ مَا ٱلۡعَقَبَةُ﴾ هذا استفهامٌ يُقصَدُ به التنبيه إلى خطورة المُستفهَم عنه وأهميته، والتشويق لمعرفة الجواب.
﴿فَكُّ رَقَبَةٍ﴾ أي: الإنفاق من أجل عِتق العبيد وتحريرهم، وقد عدَلَ القرآن هنا عن تفسير العقبة إلى بيان شروط اجتيازها، وهذه طريقةٌ قرآنيَّةٌ؛ أنَّه يركز في المسائل العمليَّة ولا يقِف كثيرًا عند الألفاظ ومدلولاتها المجرّدة.
﴿أَوۡ إِطۡعَـٰمࣱ فِی یَوۡمࣲ ذِی مَسۡغَبَةࣲ﴾ أي: ذي جوعٍ، والإطعام في وقت الجوع أكثر برًّا وإحسانًا من الإنفاق مع الشبَع، الذي يتّخذ في الغالب للسمعة والمباهاة.
﴿یَتِیمࣰا ذَا مَقۡرَبَةٍ﴾ إشارة إلى أنَّ اليتيم بحاجةٍ إلى أقربائه؛ لأنَّه يجِد فيهم عِوضًا عمَّن فقَدَه، إضافةً إلى حاجته إلى الطعام إن كان فقيرًا.
﴿أَوۡ مِسۡكِینࣰا ذَا مَتۡرَبَةࣲ﴾ أي: لا يجِد إلَّا التراب، كناية عن أنَّه لا يملك شيئًا.
﴿أُوْلَــٰۤىِٕكَ أَصۡحَـٰبُ ٱلۡمَیۡمَنَةِ﴾ أي: أصحاب اليمين الذين يُعطَون كتابهم يوم القيامة بأيمانهم، علامةً على نجاحهم وقبولهم عند الله.
﴿وَٱلَّذِینَ كَفَرُواْ بِـَٔایَـٰتِنَا هُمۡ أَصۡحَـٰبُ ٱلۡمَشۡـَٔمَةِ﴾ أي: أصحاب الشمال ممن يُعطَون كتابهم بشمالهم، علامةً على هلاكهم وطردهم من رحمة الله.
﴿عَلَیۡهِمۡ نَارࣱ مُّؤۡصَدَةُۢ﴾ أي: مُغلَقة عليهم، فلا يجِدون منها مهربًا.