﴿وَٱلتِّینِ وَٱلزَّیۡتُونِ ﴾ ثمرتان معروفتان، والقسَم بهما محتملٌ لما فيهما من نَفعٍ كبيرٍ للناس، غير أنّ عطفَ المكانَين المقدَّسَين عليهما يُرجِّح أنَّ المقصود منبَتهما في الأرض المباركة التي عاشَ فيها إبراهيم وإسحاق ويعقوب، وحَكَمَ فيها داود وسليمان، ووُلِدَ فيها عيسى وغيرهم من الأنبياء والمرسلين عليهم السلام أجمعين، وذِكرُ التينِ والزيتون عنوانًا لتك الأرض المباركة يُشيرُ إلى ما تتميَّز به تلك الأرض مِن زروعٍ وثمارٍ.
﴿وَطُورِ سِینِینَ ﴾ هو
الطور الذي في صحراء سيناء، والذي تلقَّى فيه موسى
عليه السلام رسالة ربه.
﴿وَهَـٰذَا ٱلۡبَلَدِ ٱلۡأَمِینِ ﴾ وهو مكَّةَ المُشرَّفة، وقد ميَّزها الله بالأمن كما ميَّز الأُولَى ب
التين والزيتون.
﴿لَقَدۡ خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَـٰنَ فِیۤ أَحۡسَنِ تَقۡوِیمࣲ ﴾ هذا هو جواب القسَم؛ فالإنسان أفضل مخلوقٍ على الأرض من حيث خِلقَته التي جاءت بأحسن تقويمٍ في عقله وجسمه، وروحه وفِطرته؛ وما ذاك إلَّا لأنَّه مُكرَّمٌ عند الله، ومُعَدٌّ ليكون سيَّد هذه الأرض
﴿إِنِّی جَاعِلࣱ فِی ٱلۡأَرۡضِ خَلِیفَةࣰۖ ﴾ [البقرة: 30].
﴿ثُمَّ رَدَدۡنَـٰهُ أَسۡفَلَ سَـٰفِلِینَ﴾ أي: أرجَعناه بعد هذا التفضيل والتكريم إلى السفل والدُّون، وهذا ليس عامًّا في كلِّ الناس، بل هو فيمَن اختارَ بنفسه الانحِطاطَ على العلوِّ، والإهانة على الكرامةِ، والخَبَل على العقل، وليس أدلَّ على هذا مِن أولئك الذين اتّخذوا من الحجارة آلهة، ومن السحرة والمشعوِذِين ناصِحِين ومعلِّمِين.
وهذا المعنى للآية أَولَى من اقتِصاره على الهَرَم الجسدي الذي لا يملِك له الإنسان دَفعًا، والذي لا علاقة له بالرسالات السماويَّة وهي محلُّ القسَم، ثمّ لا معنَى للاستِثناء الوارِد بعدها، بمعنى أنّ التفسير الجسدي لهذه الآية سيقطعها عن صدر السورة وعن خاتمتها ويُخرِجها من السياق.
ثمّ إنّ وصفَ
﴿أَسۡفَلَ سَـٰفِلِینَ﴾ مُشعِرٌ بالذمّ، ويصعُبُ إطلاقه على كبيرِ السنِّ، وأمَّا نسبة الفعل إلى الله، فهذا جارٍ مجرى السُّنن الإلهيَّة الحاكمة، كقوله:
﴿یُضِلُّ مَن یَشَاۤءُ﴾ فمَن طلَبَ الضلالة ضلَّ، ومَن طلَبَ الهداية هُدِي، ومَن طلَبَ الرفعةَ ارتفع، ومَن طلَبَ المهانةَ هانَ، والله لا يُكرِهُنا على شيءٍ مِن ذلك؛ فالله لا يظلِمُ أحدًا، ولا يُحابِي أحدًا.
﴿إِلَّا ٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ﴾ هؤلاء هم المُستَثنُون من تلك الانتِكاسة، وهم أهلُ الهِمَم العالية الذين لم يرتكِسُوا في حمأَة الوثنيَّة، ولم يُدنِّسوا أنفسهم بأخلاق الجاهليَّة.
﴿فَلَهُمۡ أَجۡرٌ غَیۡرُ مَمۡنُونࣲ ﴾ أي: غير مقطوعٍ؛ فهم أهل الكرامة والسعادة الدائمة في الدنيا والآخرة.
﴿فَمَا یُكَذِّبُكَ بَعۡدُ بِٱلدِّینِ﴾ أيها الإنسان بعد أن رأَيتَ الآيات الدالَّة على قُدرة الله تعالى ظاهرةً عيانًا.
﴿أَلَیۡسَ ٱللَّهُ بِأَحۡكَمِ ٱلۡحَـٰكِمِینَ ﴾ بأحكَمهم في عدله.
وكان ابن عباس إذا قرَأَها قال: (سبحانك اللهم وبَلَى)، وروي نحو ذلك في أحاديث ضعيفة عن النبي
ﷺ.