سورة البقرة تفسير مجالس النور الآية 29

هُوَ ٱلَّذِی خَلَقَ لَكُم مَّا فِی ٱلۡأَرۡضِ جَمِیعࣰا ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰۤ إِلَى ٱلسَّمَاۤءِ فَسَوَّىٰهُنَّ سَبۡعَ سَمَـٰوَ ٰ⁠تࣲۚ وَهُوَ بِكُلِّ شَیۡءٍ عَلِیمࣱ ﴿٢٩﴾

تفسير مجالس النور سورة البقرة


المجلس الثاني: بناء المجتمع المسلم وتمييزه عن المجتمعات الأخرى


من الآية (1- 29)


إذا كانت سورة الفاتحة قد أسَّسَت لهويَّة المجتمع المسلم وقيمه ومبادئه الكبرى، فإن سورة البقرة جاءت لتبسط القولَ في تلك الأُسس، ولتبدأ في عملية البناء المتواصل لهذا المجتمع، وهكذا جاءت فواتح هذه السورة لشرح معاني الإيمان، وبيان مرجعية المؤمنين، وصفاتهم وخصائصهم في مُقارنة طويلة ومفصَّلة مع المجتمعات الأخرى المحيطة بهم، وكما يأتي:

أولًا: تقسيم المجتمع:
في سورة الفاتحة كانت الإشارة إلى ﴿ٱلۡعَـٰلَمِینَ﴾، و﴿المهتدين﴾ و﴿ٱلۡمَغۡضُوبِ عَلَیۡهِمۡ﴾، و﴿ٱلضَّاۤلِّینَ﴾ فالعالَمُون هم الخلق قبل تصنيفهم بحسب مواقفهم من ﴿ٱلصِّرَ ٰ⁠طَ ٱلۡمُسۡتَقِیمَ﴾، والمُهتَدون هم السائرون على هذا الصراط، والمغضوب عليهم هم الذين تنكَّبُوا الصراط وحادُوا عنه عنادًا واستكبارًا، والضالُّون هم التائِهُون بسبب الجهل والتقليد الأعمى للآباء والكُبَراء.

في مُقدِّمات البقرة جاء التصنيف بطريقة أخرى، والذين تناولوا هذا التصنيف حصَرُوه في ثلاثة: ﴿المؤمنين، والكافرين، والمنافقين﴾، والذي رأيتُه أنَّه تصنيفٌ رباعيٌّ أيضًا، ذَكَرَ الله فيه المؤمنين، فالكافرين، فالمنافقين، ثم رجع إلى ما بدأت به الفاتحة، فهناك قال: ﴿رَبِّ ٱلۡعَـٰلَمِینَ﴾، وهنا قال: ﴿یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلنَّاسُ﴾.
إن التصنيف الأقرب للعدل وللواقع هو التصنيف الرباعي؛ ذاك لأنَّ عامة الناس ممَّن لم تبلغهم الدعوة، أو بلَغَتهم بصورة ناقصة ومشوَّهة وغير مقنعة لا يمكن حشرهم في خانة الكافرين، خاصَّة بالأوصاف التي حدَّدَتها الآيتان السادسة والسابعة في وصف الكافرين.

إنَّ القرآن حينما يقول: ﴿یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلۡكَـٰفِرُونَ﴾ [الكافرون: 1]، أو ﴿یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلَّذِینَ كَفَرُواْ﴾ [التحريم: 7]، إنما يعني أولئك الذين سمعوا القرآن ووَعَوه، وقامت عليهم الحجة به لكنَّهم رفضوه واتخذوا منه موقفَ الحربِ والعداوة.
أما سائرُ الناس فلا زال القرآن يُخاطِبُهم: ﴿یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلنَّاسُ﴾، و﴿یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلۡإِنسَـٰنُ﴾ يُخاطِبُهم بالقواسم المشتركة بينهم وبين المؤمنين، ومثل هذا خطاب الأنبياء: ﴿وَیَـٰقَوۡمِ﴾.

إنَّ هذا التصنيف ليس تصنيفًا اعتباريًّا أو أدبيًّا مجردًا، بل هو تصنيفٌ تُبنَى عليه أحكام شرعيّة دقيقة كما في قوله تعالى: ﴿لَّا یَنۡهَىٰكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِینَ لَمۡ یُقَـٰتِلُوكُمۡ فِی ٱلدِّینِ وَلَمۡ یُخۡرِجُوكُم مِّن دِیَـٰرِكُمۡ أَن تَبَرُّوهُمۡ وَتُقۡسِطُوۤاْ إِلَیۡهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ یُحِبُّ ٱلۡمُقۡسِطِینَ (٨) إِنَّمَا یَنۡهَىٰكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِینَ قَـٰتَلُوكُمۡ فِی ٱلدِّینِ وَأَخۡرَجُوكُم مِّن دِیَـٰرِكُمۡ وَظَـٰهَرُواْ عَلَىٰۤ إِخۡرَاجِكُمۡ أَن تَوَلَّوۡهُمۡۚ وَمَن یَتَوَلَّهُمۡ فَأُوْلَــٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ﴾ [الممتحنة: 8، 9].

أما التصنيف الثلاثي إلى مؤمنين وكافرين ومنافقين فهو تصنيفٌ بحسب المواقف الحادّة من القرآن الكريم، والقسمة العقلية لا تحتمل غير ذلك؛ فالمرء إما مؤمن به، وإما كافر، وإما مظهر للإيمان مبطِن للكفر، لكن لماذا اعتمد القرآن هذا التصنيف المختلف نوعًا ما عن سورة الفاتحة؟

الأقرب - والله أعلم -: أن تصنيف الفاتحة اعتمد التصنيف بحسب الأسباب والدوافع الرئيسة؛ فالهدايةُ للمؤمنين، والجهل للضالين، والعناد للمغضوب عليهم.
بينما في سورة البقرة اعتمد المواقف الكليّة ﴿الإيمان، والكفر، والنفاق﴾، وهذا الفارق يتناسب مع خصوصيَّة السورتَين، فالفاتحة - وهي سورة مكيَّة - كانت أقربَ لتقرير الحقائق وليست لبيان الأحكام، بخلاف البقرة والتي هي سورة مدنيّة؛ حيث إن حقيقة المنافقين لا تختلف عند الله عن حقيقة الكافرين، بينما التفريق بينهما ضروريٌّ في التعامل اليوميِّ، وفي الأحكام الفقهيَّة المتعلقة به، وهذا هو الذي بدأت بتفصيله سورة البقرة.

وأخيرًا: فإن المنافقين لم يَظهروا إلا في المدينة؛ وبما أن الفاتحة نزلت في مكّة فقد اكتفى القرآن ببيان أسباب الانحراف إلى الكفر، وهي الأسباب التي تشمل كل الكافرين إلى قيام الساعة.

تجدر الإشارة هنا أن هذا التصنيف إنما جاء بحسب المواقف الكليّة من الإيمان، ولكنّ القرآن له تصنيفات أخرى للمجتمعات الإنسانية وباعتبارات أخرى كثيرة، كقوله تعالى: ﴿قُلۡ هَلۡ یَسۡتَوِی ٱلَّذِینَ یَعۡلَمُونَ وَٱلَّذِینَ لَا یَعۡلَمُونَ﴾ [الزمر: 9]، و قوله تعالى:﴿فَمِنۡهُمۡ ظَالِمࣱ لِّنَفۡسِهِۦ وَمِنۡهُم مُّقۡتَصِدࣱ وَمِنۡهُمۡ سَابِقُۢ بِٱلۡخَیۡرَ ٰ⁠تِ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۚ﴾ [فاطر: 32] وهناك أيضًا المهاجرون والأنصار، والأعراب والمعاهدون، والمحاربون والمسالمون وغيرهم.

ثانيًا: بيان معالِم الهدى:
في سورة الفاتحة اكتَفَى القرآن بقوله: ﴿ٱهۡدِنَا ٱلصِّرَ ٰ⁠طَ ٱلۡمُسۡتَقِیمَ﴾، وهنا شرع بتوصيف طريق الهدى وبيان معالمه:

1- التقوى:
وهي القلق الإيجابي، والخوف من الوقوع في الخطأ أو الخطيئة هي الدافع الأول للنظر والتفكير الجاد للتمييز بين الحق والباطل والبحث عن طريق الخلاص، وهذه صفة ذاتيّة لا تقود صاحبها إلا للخير؛ ولذلك قدَّمها القرآن.

2- الإيمان بالغيب:
وهي أولى ثمار التقوى الذاتيَّة وما تسْتَتْبِعُهُ من صدقٍ في البحث، وشعور بجديّة الأمر، فالكون الذي يحيط بهذا الإنسان لا يمثِّل الحقيقة كلَّها، فالفطرة الصافية والتفكير الجاد يقودان بالضرورة إلى الإيمان بالغيب، الغيب الذي هو مصدر هذا الخلق، والغيب الذي هو مآل هذا الخلق.
فأثر القصد والحكمة ظاهر في كلِّ جزئية من جزئيَّات هذا الكون، بين الذكر والأنثى، وبين الناظر والمنظور، والسامع والمسموع، وبين الإنسان والحيوان والنبات والماء والهواء والضوء والطاقة.
حتى قيل إن حاجة الإنسان للشيء دليل على وجوده، وكذا حاجة سائر الكائنات، فمن الذي لبّى هذه الحاجات؟ ومن الذي نسَّق كل هذا التنسيق بين هذه الموجودات؟
وهذا ما سنرى تفصيلَه في كثيرٍ من سور القرآن.

3- إقامة الصلاة:
وهي الدلالة الأولى على أن الإيمان بالغيب هو إيمانٌ عمليٌّ ودود وليس مجرّد فلسفة أنتجها النظر العقلي المجرّد، فالله الذي أنزل علينا نعمه لا بدّ أن يصعد إليه منا الشكر والدعاء والثناء الحسن، وتلك هي حقيقة الصلاة في بُعدِها الأول.

4- إيتاء الزكاة:
وهي ثمرة الإيمان الأولى في البُعد الإنساني، وعلاقة الإنسان بأخيه الإنسان، لسدِّ حاجة الفقير والمسكين، وهي العلامة على أن الإيمان بالغيب ما جاء ليعزل الإنسان عن محيطه في عالم الشهادة، فالأخذ والعطاء والرزق والنفقة ستستمرُّ بأبهى صورها ﴿وَمِمَّا رَزَقۡنَـٰهُمۡ یُنفِقُونَ﴾.

5- وحدة الرسالات:
وهي البُعد التاريخي للإيمان ﴿وَٱلَّذِینَ یُؤۡمِنُونَ بِمَاۤ أُنزِلَ إِلَیۡكَ وَمَاۤ أُنزِلَ مِن قَبۡلِكَ﴾ فالآخِرُ لا يكفُر بالأول، والحاضر لا ينفصل عن الماضي، والرسلُ جميعًا إنما يؤدُّون رسالة واحدة، ومن مصدر واحد، وإن كانت بفصول متعددة وآماد مختلفة.
ومن اللطيف هنا أنك تجِد في القرآن أسماء النبيين السابقين من آدم ونوح إلى موسى وعيسى أكثر مما تجِد اسم محمد عليه وعليهم أزكى الصلوات والتسليمات.

6- الإيمان باليوم الآخر:
وهو البُعد المستقبلي الغائِي، فحياة الإنسان مديدة أكثر بكثير من عمره المحدود على هذه الأرض، بل إن عمره هنا ليس إلا مقدِّمة اختبارية لنوعية الحياة الباقية التي سيعيشها في ذلك العالم الآخر.

7- الفلاح:
وهو النجاح الملازم لمن تمسَّك بالصفات الستِّ واستقام عليها، إنه طمأنينة الدنيا وسعادة الآخرة.

ثالثًا: بيان أسباب الكفر:
الكفرُ غطاءٌ يضربه الإنسان بنفسه على عقله وفطرته، ليجحد به ما هو من ضرورات العقل ولوازم الفطرة، فينكر آيات الله في خلقه، ومعجزاته لأنبيائه، والنور المنبثق من وحيه ورسالاته، ولشدَّة وضوح هذا الصنف بصَلَفه وعنادِه لم يَشَأ القرآن أن يطيل في وصف حالهم، وإنما اكتفى بذكر الأسباب الرئيسة لهذا الضلال الظاهر والمكشوف:

1- العناد:
﴿سَوَاۤءٌ عَلَیۡهِمۡ ءَأَنذَرۡتَهُمۡ أَمۡ لَمۡ تُنذِرۡهُمۡ لَا یُؤۡمِنُونَ﴾ إنه الموقف المسبق الذي يتخذه المرء لأسباب ليس لها صلة بالفكرة المطروحة، فالكِبر والحسد والحقد والتعصُّب ونحوها كلها دافعات لتبنِّي الحُكم المسبق والذي لا يدع مجالًا للحوار أو الجدال، ولا حتى للتفكُّر والتأمل.

2- تعطيل الفكر:
﴿خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ﴾ وهو من لوازِم التكبُّر والمكابرة، ونسبة الخَتم إلى الله إنما كان بحكم إرادة الله المطلقة التي لا تنفصل عن عدله وحكمته، والله لا يظلم أحدًا، لكنها الأسباب والسنن التي وضعها الله في هذا الكون؛ فمن طلب الهدى هداه الله، ومن تكبَّر أضلَّه الله، تمامًا كالذي يأخذ الدواء فيشفى، ويأخذ السمَّ فيَردَى.

3- تعطيل السمع:
﴿وَعَلَىٰ سَمۡعِهِمۡ﴾ وقد ورد تأكيد هذا في مثل قوله تعالى: ﴿وَقَالَ ٱلَّذِینَ كَفَرُواْ لَا تَسۡمَعُواْ لِهَـٰذَا ٱلۡقُرۡءَانِ وَٱلۡغَوۡاْ فِیهِ لَعَلَّكُمۡ تَغۡلِبُونَ﴾ [فصلت: 26]؛ ولذلك يهربون من مجالسِ الذكر وحِلَقِ العلم، ويملَؤون آذانهم باللهو والعبث.

4- تعطيل البصر:
﴿وَعَلَىٰۤ أَبۡصَـٰرِهِمۡ غِشَـٰوَةࣱ﴾ وليست الغشاوة سوى غبَش الكِبر والعناد، فالعين ترى الظواهر لكنّها لا ترى الحقائق الكامنة فيها، وترى النّور لكنّها تُعرض عنه، إنها محجوبة بالهوى والأنانيَّة والمصالح الآنِيَّة، إنها باختصار لا تريد أن ترى الحق، ولا تريد أن ترى الواقع، وإنما تريد أن ترى ما تشتَهِي.
وقد قيل لأحد الصالحين: كيف رأَت قريشٌ رسولَ الله ثم لم يؤمنوا به؟ قال: إنهم لم يَرَوا رسولَ الله، وإنَّما رَأَوا يتيمَ أبي طالب!
إن ثلاثيَّة القلب والسمع والبصر أكَّدَها القرآن في غير هذا الموضع في مثل قوله: ﴿إِنَّ ٱلسَّمۡعَ وَٱلۡبَصَرَ وَٱلۡفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَــٰۤىِٕكَ كَانَ عَنۡهُ مَسۡـُٔولࣰا﴾ [الإسراء: 36]؛ تنبيهًا لمسؤولية الإنسان في فتح كل منافذ المعرفة عنده ليصل إلى الحقيقة، هذا هو واجبه الأول وتلك هي مسؤوليته.

رابعًا: بيان صفات المنافقين:
النفَق هو الطريق الخفيُّ الباطنيُّ المظلم، ومنه النفاق؛ لأنَّ المنافق يبطن الكفر ويتظاهر بالإيمان، فإن بدا شيءٌ من كفره بزلّة لسان وغيبة جَنان عاد ليحلف الأيمان ﴿ٱتَّخَذُوۤاْ أَیۡمَـٰنَهُمۡ جُنَّةࣰ فَصَدُّواْ عَن سَبِیلِ ٱللَّهِۚ إِنَّهُمۡ سَاۤءَ مَا كَانُواْ یَعۡمَلُونَ﴾ [المنافقون : 2].
ولقابلية هذا الصنف للتخفّي والتلوّن راح القرآن يتلو أوصافهم ويُجلِّيها ويضرب لها الأمثال:

1- إبطان الكفر وإظهار الإيمان:
ولذلك فهم داخلون في مسمَّى الكفر حقيقة، وإظهارهم للإيمان لا يُغيِّر من حقيقتهم عند الله، ولكنَّه يُؤثِّر في أحكامهم الدنيويّة، وهذا ما سنتوسَّعُ فيه عند تدبُّر سورة ﴿المنافقون .

2- المخادعة:
وهي صفةٌ مناسبة للنفاق وملازمة له، وهي ليست بعيدة عن معنى النفاق في إخفاء الحقيقة، وتزيد عليه في المكر والكيد.

3- ضعف الشخصيَّة:
والذي عبّر القرآن عنه بقوله:﴿فِی قُلُوبِهِم مَّرَضࣱ﴾ والظاهر هنا أنه غير الحسد والكبر ونحوهما لأنها صفات الكافرين أيضًا، لكنّ الذي يفرق هؤلاء عن بقيّة الكافرين؛ أنّهم ضعاف خائفون متردِّدون، يلهثون خلف شهواتهم القريبة، ولا تليق بهم صفات القوّة والرجولة وإن كانت باطلة كالعناد والتكبّر والشجاعة والاستعداد للتضحية.

4- الكذب:
وهو من لوازم ضعف الشخصيّة بخلاف القويِّ ولو كان كافرًا، وهي هنا وإن جاءت بمعنى الكذب في ادعائهم الإيمان، إلا أن من استساغ الكذب في معتقده هان عليه الكذب فيما سواه؛ ولذلك ورد في الحديث عن علامات المنافق: «وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ».

5- الفساد بدعوى الصلاح:
فالمنافق مفسدٌ في الأرض، ولا يمكن إلا أن يكون مفسدًا، لكنّه يقرن الإفساد بالتبرير على خلاف الكافر الذي لا يحتاج إلى هذا التبرير، وأوّل ما يفسده المنافق هو بيته، فالمنافق لا يتأتَّى له أن يُعلِّم أولاده الصدق والكرامة والمروءة، بل سيزيّن لهم الباطل لتحسين موقفه وتلميع صورته.
وقد رأينا من مُنافِقِي ﴿التقيَّة﴾ ما يُثبت ذلك، حيث يُشجّعون أتباعهم على الكذب والخداع تحقيقا لمصلحة الدين أو المذهب بزعمهم.

6- ازدراء المؤمنين والاستهزاء بهم:
وهذه الصفة وإن كانت تبدو كأنها مشتركة مع الكافرين غير أن الظاهر أن رمي هؤلاء للمؤمنين مختلف، فأولئك يطعنون في الدين وأهله، وهؤلاء يعظّمون الدين وينتقصون من أهله، كما تعظّم بعض الفرق محمَّدًا وتشتم صحابته، ومثلهم من يعظّم القرآن ويطعن في القرّاء والمفسّرين، ويمجّد الحديث النبويّ ويطعن في المحدّثين، ويُقرّ الصلاة والزكاة ثم ينتقص من المصلِّين والمزكِّين، ومقصودهم تجريد الدين من أهله، وتحويله إلى شعارات وعبارات تضمُّها الأوراق والجدران لا القلوب والوجدان.

7- موالاة الكافرين:
﴿وَإِذَا خَلَوۡاْ إِلَىٰ شَیَـٰطِینِهِمۡ قَالُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمۡ﴾ وهو مثل قوله تعالى في سورة الحشر: ﴿أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِینَ نَافَقُواْ یَقُولُونَ لِإِخۡوَ ٰ⁠نِهِمُ ٱلَّذِینَ كَفَرُواْ مِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَـٰبِ لَىِٕنۡ أُخۡرِجۡتُمۡ لَنَخۡرُجَنَّ مَعَكُمۡ وَلَا نُطِیعُ فِیكُمۡ أَحَدًا أَبَدࣰا وَإِن قُوتِلۡتُمۡ لَنَنصُرَنَّكُمۡ وَٱللَّهُ یَشۡهَدُ إِنَّهُمۡ لَكَـٰذِبُونَ﴾ [الحشر: 11] وهو ما يثبت كفرهم وعداءهم للمؤمنين.

8- غلق منافذ المعرفة عندهم:
﴿صُمُّۢ بُكۡمٌ عُمۡیࣱ﴾ وهذه صفات الكافرين أيضًا، غير أن الدافع لها مختلف، فذلك يغلقها عنادا وتكبُّرا، وهذا يغلقها بمعنى: أنه يخفي الحقائقَ التي وصلته ويكتُمها ويحرِّفها، فهو يحرص على السمع والنظر تجسُّسًا ومراقبة، لكنه لا ينتفع بذلك.
وحين يُستشهد لا يشهد بما رأى وسمع، ولذلك فهو ﴿أبكم﴾ مع نطقه؛ لأنه أبكم عن قول الحق.
وهو أيضًا يسمع صواعق الحق لكنه لا يطيقها، فيضع أصابعه في آذانه خوفا من أن تصل كلمة الحق إلى قلبه، وذلك هو صمَمُهم.

9 - التردد:
﴿كُلَّمَاۤ أَضَاۤءَ لَهُم مَّشَوۡاْ فِیهِ وَإِذَاۤ أَظۡلَمَ عَلَیۡهِمۡ قَامُواْ﴾ والتردد هنا لا يعني التردد بين الإيمان والكفر، ولا بين المؤمنين والكافرين، فالقرآن نفى عنهم الإيمان جملة وأثبت لهم الكفر جملة.
وإنما المقصود التملُّق لهؤلاء أو لهؤلاء بحسب المكاسب والمغانم بلا ثوابت من دين ولا مروءة من خُلق، وهم يَعدُّون كل ذلك من السياسة والكياسة.

خامسًا: دعوة الآخرين ومحاججتهم:
الآخرون هنا هم الناس غير المصنَّفِين، ممَّن لم تبلغهم الدعوة ولم تقم عليهم الحجَّة، ولم يتخذوا موقفًا واضحًا من الإسلام، وهؤلاء هم الذين يوجِّه القرآن إليهم خطابه: ﴿یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلنَّاسُ﴾.

وفي الآيات المتبقية من هذا المقطع توجيهات لدعوتهم ومناقشتهم نلخِّصها في الآتي:

1- الخطاب بالاسم الجامع المشترك:
﴿یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلنَّاسُ﴾، ﴿یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلۡإِنسَـٰنُ﴾، ﴿وَ یَـٰقَوۡمِ﴾، وأما مثل قوله تعالى: ﴿قُلۡ یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلۡكَـٰفِرُونَ﴾ [الكافرون: 1] فإنَّما يوجَّه لمن بلغتهم الدعوة فرفضوها واتخذوا منها موقفا عدائيًّا واضحًا.

2- التذكير بوحدة الخلق والنشأة:
﴿ٱلَّذِی خَلَقَكُمۡ وَٱلَّذِینَ مِن قَبۡلِكُمۡ﴾ فلا مفاضلة ولا تمييز في أصل الخلق.

3- التذكير بنعم الله العامَّة والشاملة لكل النَّاس:
﴿ٱلَّذِی جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ فِرَ ٰ⁠شࣰا وَٱلسَّمَاۤءَ بِنَاۤءࣰ وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاۤءِ مَاۤءࣰ فَأَخۡرَجَ بِهِۦ مِنَ ٱلثَّمَرَ ٰ⁠تِ رِزۡقࣰا لَّكُمۡۖ﴾، ﴿هُوَ ٱلَّذِی خَلَقَ لَكُم مَّا فِی ٱلۡأَرۡضِ جَمِیعࣰا﴾.

4 - تقديم الدليل البيِّن الواضح:
﴿وَإِن كُنتُمۡ فِی رَیۡبࣲ مِّمَّا نَزَّلۡنَا عَلَىٰ عَبۡدِنَا فَأۡتُواْ بِسُورَةࣲ مِّن مِّثۡلِهِۦ وَٱدۡعُواْ شُهَدَاۤءَكُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمۡ صَـٰدِقِینَ﴾ وأنه لا حياء في العلم، واستخدام الوسائل المناسبة لإيصال الفكرة الصحيحة ﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَا یَسۡتَحۡیِۦۤ أَن یَضۡرِبَ مَثَلࣰا مَّا بَعُوضَةࣰ فَمَا فَوۡقَهَا﴾.

5 - التحذير من عاقبة الكفر ومعاندة الحق:
﴿فَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ﴾ والتحذير كذلك من النكوص عن الحق بعد معرفته ﴿ٱلَّذِینَ یَنقُضُونَ عَهۡدَ ٱللَّهِ مِنۢ بَعۡدِ مِیثَـٰقِهِۦ وَیَقۡطَعُونَ مَاۤ أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِۦۤ أَن یُوصَلَ وَیُفۡسِدُونَ فِی ٱلۡأَرۡضِۚ أُوْلَــٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡخَـٰسِرُونَ﴾.

6 - البشارة بالخير لكل من اختار طريق الحق وتمسَّك به:
﴿وَبَشِّرِ ٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ﴾.


﴿الۤمۤ﴾ دَأَبَ كثيرٌ من المفسِّرين عند وصولهم إلى هذه الأحرف أن يقولوا: ﴿الله أعلمُ بمُرادِه﴾ وهو إدخال لها في مسمَّى المتشابه الذي لا يَعلَمُ تأويلَه إلا الله على نظرهم.
ويَرِد على هذا إشكال يصعب دفعه، يتلخص في قبول العرب لهذه الأحرف وسكوتهم عنها دون نكير من كافر أو منافق ولا سؤال من صحابيٍّ أو أعرابيٍّ، وإذا كان الصحابيُّ يسكت تأدُّبًا، فما الذي جعل الأعراب يسكتون وهم يسمعون كلامًا لا يفهمونه؟ ثمَّ ما الذي جعل المشركين أيضًا يسكتون، والقرآن يُعجزهم ببلاغته وبيانه؟
الذي يترجَّح - والله أعلم - : أنَّ العربَ بمؤمنهم وكافرهم كانوا يفهمون شيئًا ما من هذه الأحرف، وإنما نحن الذين قصرنا عن الفهم بسبب فُشوِّ اللحن.

وأذكر منذ سنين زرتُ بادية عربيّة لا زال الناس يعيشون فيها ببيوت الشعَر والوَبر، وقد اختصموا عندي في مسألة ماليّة، فلمَّا كثر اللَّجَاج قام أحدهم وجَثَا أمام خصمه وصار يُبطّئ بنطق الكلمات كلمةً كلمةً، وحرفًا حرفًا، ويقول: ﴿ألف، باء، تاء ...، فهمت؟!﴾، والذي عرفتُه آنذاك أنَّه أرادَ أن يقول لخَصمه: لقد فصّلتُ لك ما فيه الكفاية، فلماذا لا تفهَم؟

لقد كان هذا المعنى واضحًا وبسيطًا أدرَكتُه أنا وأدركه الحضور بلا تكلُّف، وكنت تلك الأيام أبحَث في دلالة الحروف المقطّعة وشعرتُ كأنَّ الله ساقني إلى هؤلاء لأتعلَّم منهم هذا الدرس.

ومن القرائن القرآنيَّة على هذا المعنى: أن القرآن قد ذكر التفصيل فعلًا في أكثر من موضع عقب هذه الحروف، مثل: ﴿حمۤ (١) تَنزِیلࣱ مِّنَ ٱلرَّحۡمَـٰنِ ٱلرَّحِیمِ (٢) كِتَـٰبࣱ فُصِّلَتۡ ءَایَـٰتُهُۥ قُرۡءَانًا عَرَبِیࣰّا لِّقَوۡمࣲ یَعۡلَمُونَ﴾ [فصلت: 1 - 3]، و﴿الۤـرۚ كِتَـٰبٌ أُحۡكِمَتۡ ءَایَـٰتُهُۥ ثُمَّ فُصِّلَتۡ مِن لَّدُنۡ حَكِیمٍ خَبِیرٍ﴾ [هود: 1].

أما نعتُ القرآن بالبيان ونحوه عقب هذه الحروف فهو الأكثر والأظهر، وهناك أيضًا قرينة من اللسان العربي؛ حيث تشيع بعض الحروف والكلمات التي لا معنى لها سوى التنبيه على ما بعدها مثل ﴿ألا، و ها﴾ كقولهم: ﴿ألا كل شيء ما خلا الله باطل﴾، وقولهم: ﴿ها أنا ذا﴾ وقد اتصل بعضها بما بعدها حتى صارا كالكلمة الواحدة، مثل: ﴿هذا، وهذان، وهاتان، وهؤلاء﴾، فـ ﴿ها﴾ هنا زائدة وليست من أصل الكلمة، بدليل جواز حذفها دون أن ينقص المعنى.

إن هذا المعنى العام للحروف المقطّعة والذي أخذ به عدد من المفسِّرين قديمًا وحديثًا هو الأنسب لفهم الخطاب القرآني، وتقديم القرآن للعالمين رسالة واضحة ليس فيها طلاسم خفيّة كما هو الشأن في الكتب الباطنيَّة.
وإذا اتَّفَقنا على هذا المعنى فلا بأس بعد هذا بمحاولة التقاط الفوارق الدقيقة واللطيفة بين كل حرف وحرف بما يناسب السورةَ وموضوعَها وصياغتها، والله أعلم.

﴿ذَ ٰ⁠لِكَ ٱلۡكِتَـٰبُ﴾ الإشارة للبعيد هنا للتنويه بعظمة القرآن ورفعة منزلته، مع أنه قريب من الناس تلاوةً وسماعًا وفهمًا وتدبُّرًا، ولولا ذلك التنويه لكانت الإشارة بالقريب كما نقول: هذا الكتاب.

﴿یُؤۡمِنُونَ بِٱلۡغَیۡبِ﴾ الإيمان: هو ليس التصديق بوجود الشيء فحسب، وإنما التصديق بوجوده وبما يميّزه عن غيره، فالتصديق بوجود الماء وبوجود السمِّ من دون تمييز بينهما لا ينفع شيئا؛ ولذا فإن من آمن بوجود الخالق لتفسير حدوث الخلق فقط لا يُعدّ مؤمنا بالله، وكذا من يؤمن بوجود الحياة الثانية لتلبية الرغبة الذاتيّة في الخلود لا غير، مع أنّ هذا التفكير العقلي أو العاطفي قد يكون سببا لتحقق الإيمان المطلوب، فينبغي تشجيعه عند الآخرين ثم البناء عليه، أما الغيب فهو عالم الغيب الذي ليس للبشر سبيل إليه بوسائلهم المادّية الدنيويّة، أما ما غاب عن الإنسان بحائل أو ببُعْد مسافة فهذا غيب نسبي وهو جزء من عالم الشهادة، والذي يفرق المؤمن عن غيره إنما هو الإيمان بعالم الغيب.

﴿وَیُقِیمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ﴾ قال: يقيمون، ولم يقل: يصلُّون؛ لما في الإقامة من معنى الاستمرار والثبات والمحافظة، ونسبها للجمع إشارة لفضيلة الجماعة.
﴿وَمِمَّا رَزَقۡنَـٰهُمۡ یُنفِقُونَ﴾ ربط الرزق بالإنفاق لما فيه من طمأنة المنفق على رزقه الذي هو من الله ومن خزائنه التي لا تنقطع.

﴿أُوْلَــٰۤىِٕكَ عَلَىٰ هُدࣰى مِّن رَّبِّهِمۡ﴾ هذه النتيجة جاءت بعد مقدّمتين؛ طلب الهداية ﴿ٱهۡدِنَا ٱلصِّرَ ٰ⁠طَ ٱلۡمُسۡتَقِیمَ﴾ والتمسك بدليل الهداية ﴿ذَ ٰ⁠لِكَ ٱلۡكِتَـٰبُ لَا رَیۡبَۛ فِیهِۛ هُدࣰى لِّلۡمُتَّقِینَ﴾.

﴿یُخَـٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ﴾ المنافقون لا يؤمنون بالله، والمخادعة منهم إنما هي للمؤمنين، وتقديم اسم الله هنا إنما جاء لمؤانسة المؤمنين بالمعيّة الربّانيّة، فالمؤمنون ليسوا وحدهم في مواجهة عداء الكافرين أو مكر المنافقين.

﴿أَلَاۤ إِنَّهُمۡ هُمُ ٱلسُّفَهَاۤءُ﴾ وقد استحقُّوا هذا الوصف لتعطيلهم العقل والفكر، وبعدهم عن النظر فيما يصلح حالهم ومآلهم، وإذا كان المبذّر لماله قد استحقّ وصف السفه، فإن العابث بنفسه وعقله ومستقبله أَولَى بذلك.

﴿وَإِذَا خَلَوۡاْ إِلَىٰ شَیَـٰطِینِهِمۡ﴾ والشياطين هنا هم اليهود ونحوهم الذين كان يرجع إليهم هؤلاء المنافقون ، وفي هذا دلالة على أنَّ ﴿الشيطان﴾ اسم جامع للخبث والشرِّ سواء كان من الإنس أو الجن وحتى الحيوان الذي لا يعقل، كما ورد في الحديث من وصف الكلب الأسود بأنه شيطان، مع أنه لم يخرج من جنس الكلاب بدليل أننا نغسل الإناء من ولوغه بالماء والتراب.

﴿ٱللَّهُ یَسۡتَهۡزِئُ بِهِمۡ﴾ هو واقع حالهم، فمن يخادع الله يُرجع الخداع على نفسه، ومن يستهزئ بدين الله يرجع استهزاؤه عليه حينما يكتشف أن ثقته الزائدة بنفسه والتي دفعته للاستهزاء لم تكن سوى غرور باطل وزائل، وإنما نسب الله هذا الفعل لنفسه؛ لأن إرادة الله حاكمة على كل فعل.

فلك أن تقول لمن أحرَقَ نفسَه: لقد أحرَقَه الله، فسنن الله في هذا الكون هي من أمر الله، ويشهد لهذا قوله تعالى: ﴿وَیَمۡكُرُونَ وَیَمۡكُرُ ٱللَّهُ﴾ [الأنفال: 30]، ثم قوله في آية أخرى: ﴿وَمَا یَمۡكُرُونَ إِلَّا بِأَنفُسِهِمۡ وَمَا یَشۡعُرُونَ﴾ [الأنعام: 123]، ومثل هذا قوله على لسان إبراهيم : ﴿وَٱلَّذِی هُوَ یُطۡعِمُنِی وَیَسۡقِینِ﴾ [الشعراء: 79]، مع أن إبراهيم هو من يطعم نفسه ويسقيها.
وهذه النسبة تختلف عن نسبة الصفات الإلهيّة له سبحانه كالعلم والقدرة والرحمة بدليل صحّة اشتقاق الأسماء الحسنى من هذه بخلاف تلك، والله أعلم.

﴿لَعَلَّكُمۡ تَـتَّـقُونَ﴾ فيه معنيان:
الأول: أن كثرة العبادة تورث التقوى، وهي مطلب جميع السائرين إلى الله، وهي شرط من شروط الولاية الربّانيّة.
والثاني: أن العبادة تقيكم ما تحذرون من الشقاء والعذاب، وهذا هو الأقرب للسياق، والله أعلم.

﴿فَأۡتُواْ بِسُورَةࣲ مِّن مِّثۡلِهِۦ﴾ وهذا غايةُ الإعجاز، ومع تعدُّد وجوه الإعجاز، فإنَّ الإعجاز البياني هو المقصود بهذا التحدِّي، وذلك لسببين اثنين:
الأول: أن وجوه الإعجاز الأخرى لا تتوفَّر في كل سور القرآن.
والثاني: وهو الأهم؛ أنَّ تحدِّي الناس إنما يكون بمعجزة حاضرة وقت التحدِّي، أما الإحالة إلى ما سيكتشفه الناس مستقبلًا فهذا يسمَّى: ﴿دلائل الصدق﴾، وهي تشترك مع الإعجاز في إثبات صدق الرسول والرسالة، وتفترق عنه في تحقق التحدِّي.

﴿أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ فيه إشارة إلى أن اسم ﴿الكافرين﴾ لا يطلق إلا على من رفض الدعوة بعد أن بلغته بصورتها الصحيحة فهم وحدهم الذين يستحقون العقاب؛ لأن العقوبة لا تلحق غير المكلَّف بالشرع، ومن لم تبلغه الدعوة فقد سقط عنه التكليف أصلًا، والله أعلم.

﴿ٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ﴾ عطْفُ العمل على الإيمان يقتضي المغايرة في الماهيّة، وإن كان العمل ثمرة الإيمان ولازمًا من لوازمه، وإطلاق اسم الإيمان على بعض الأعمال إنما هو من باب إطلاق اللازم وإرادة الملزوم، وهذا شائع في اللغة، ولو كان العمل داخلا في ماهيَّة الإيمان لانتفى الإيمان بانتفائه، بينما نرى الإيمان ينتفي فعلًا بانتفاء شيء من ماهيته كالإيمان بالرسول أو الرسالة أو اليوم الآخر، ويظهر هذا في صورة من أنكر تحريم الربا فهو كافر إجماعًا لتكذيبه النص، بخلاف من اعتاد أكل الربا دون إنكار حرمته.

﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَا یَسۡتَحۡیِۦۤ أَن یَضۡرِبَ مَثَلࣰا﴾ الآية، والحياء صفة محمودة لما فيها من معنى التنزّه عن المعايب والنقائص؛ ولذلك ورد في الحديث: «إِنَّ اللهَ حَيِيٌّ كَرِيْمٌ».

﴿بَعُوضَةࣰ فَمَا فَوۡقَهَا﴾ أي: فوقها في الصغر، بمعنى: أصغر منها، وهو كقولك: هذا أكثر فقرًا، وأشدُّ ضعفًا، فالفقر منافٍ للكثرة، والضعف منافٍ للشدَّة، لكنهما باجتماعهما أعطيا معنى أدنى من الفقر وأوهن من الضعف، وقد ذكر بعض علماء الأحياء المعاصرين أن هناك حشرة تمتطي ظهر البعوضة وهي أصغر منها، والله أعلم.

﴿هُوَ ٱلَّذِی خَلَقَ لَكُم مَّا فِی ٱلۡأَرۡضِ﴾ دليلٌ على الإباحة الأصلية لكل ما تنتجه الأرض، وما هو كائن على ظهرها، أو في باطنها، وهذا هو معنى القاعدة المعروفة ﴿الأصل في الأشياء الإباحة ما لم يثبت دليل التحريم﴾.